10 كانون الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

مدينة تهوي إلى ما لا نهاية

ضحى شمس

21 تشرين الثاني 2022

العدد الأول
تصوير سنان عيسى

انفجر الصوت بقوّة فطارت العصافير التي عششت في شجرة المرآب الضخمة أمام منزلي، وأخذت تدور في سماء نوفمبر الصافية على غير هدى مرسلة زقزقات مفزوعة. قفز بعض المارة مرعوبين ينظرون إلى الجهة التي افترضوا أنّ الصوت أتى منها. توقف عامل الباركينغ عن عد النقود. كذلك فعل الجنود في الثكنة القريبة، وممرضو المستشفى العسكري بأروابهم البيضاء. توقف ولد عن قضم منقوشته أمام الفرن، ثم شرع في البكاء!

كاد الهاتف يقع من يدي. يصرخ الصديق البعيد عبر السماعة «خير شو في؟». أنظر من شرفتي إلى الأفق باتجاه المرفأ حيث ارتسم قبل سنتين ذلك الفطر الدخاني العملاق متصاعداً من انفجار رهيب. لكن، لا شيء هناك. أصلاً لم يعد هناك شيء لينفجر أو يحترق في محيط المرفأ.

أرفع عينيّ إلى فوق: بضع غيوم سود تزحف نحونا من صوب الشرق. لا طائرات معادية تعبر السماء نحو سوريا لتقصفها في طقس لم يعد ينتزع استنكار أحد منذ سنوات.

من أين أتى الصوت؟ أكاد لا أصدق إنه كان مجرّد رعد. أرعدت السماء التي تأخر مطرها فارتعشت فرائص المدينة التي باتت على أعصابها، تقفز هلعاً لأدنى حركة.

منذ بداية الانهيار باتت بيروت تتحدث بصوت عالٍ. نزقة، غاضبة، تتوالد الشتائم على لسانها بسهولة فائقة، مزاجها سيء ولا تنام جيداً.

باتت المدينة مضطربة مثل سكانها. متوجسة، لم تعد تعرف من أين تأتيها الضربات! من الخارج تارة ومن الداخل «تارات».

في الشارع الذي يطلّ بيتي عليه، يرتفع صراخ من وقت إلى آخر. يتطوّر أحياناً إلى تشابك بالأيدي لا ينتهي إلا بتدخل عناصر الجيش في الثكنة المحاذية، أو بحسم موازين القوى: مواطن قوي ضد مواطن ضعيف. وتعريف الضعف والقوة متغيّر: مواطن مسيحي في منطقة مسلمة، أو مسلم في منطقة مسيحية. لبناني ضد فلسطيني، أو سوري. رجل ضد امرأة. امرأة مدعومة ضد رجل عادي. كل أنواع موازين القوى في أوجها اليوم. الكل خائف من الكل.

تلتقط أذناك وأنت تمشي في الشارع كلمات تكاد تختزل الشأن العام إلى بضع مفردات: الدولار، الكهرباء، البنزين، كورونا، وأخيراً الكوليرا.

فيروس من نوع آخر ينتشر مؤخراً، ويصيب الموارنة تحديداً من بين المسيحيين من دون أن يكون معدياً لبقية الطوائف: فيروس رئاسة الجمهورية. «البطولة» للموارنة في اللحظة السياسية. أسماء لا تعرف من أين أتت تتنازع إعلانات الترشح للمنصب الأول في الجمهورية السوريالية. هم يعلمون أنّ لا حظوظ لهم بين مرشحي العائلات السياسية المتوارثة للتناوب على المنصب. لكن لا بأس ببعض الشهرة. لعلّ وعسى. إن لم يكن هذه الدورة فلربما في دورة مقبلة.

 

المدينة تغلي. الشارع يشبه طنجرة «بوب كورن» لا تعرف متى يفرقع أحدهم بجانبك ولماذا. في الحي يلقي الجيران الأعداء حزبياً/طائفياً، بتلميحات اتهامية على بعضهم على خلفية محاكمات اعتبرها أحدهم صورية لعملاء اسرائيل العائدين إلى لبنان مستفيدين من «مرور الزمن»، فيما اعتبرها الآخر «ماضياً وقد مضى». كأنّ الزمن يمرّ على خيانة الأوطان من دون توبة، أو طلب صفح الضحايا، أو عقاب. كأنّ خيانة الأوطان نوع من قصة غرام قديمة بين شخصين افترقا وذهب كلٌّ في حال سبيله.

المدينة اليوم حائرة في تدهور أمورها وسقوطها المتسارع. إنها حيرة من لا يملك جواباً لسؤال فوجئ به. لم يكن يتوقعه. من خارج المنهاج، كتلميذ كسول يقف أمام الأستاذ مرسلاً نظرات مرتبكة لمن حوله علّ أحدهم ينجده. كيف وصلنا إلى هنا؟ كأنّما كان ممكناً الوصول إلى حال أخرى بما اقترفناه.

 

المدينة اليوم مشوّشة. تبدو كأنها فقدت ذاكرتها القصيرة، لكنها لا تريد استرجاعها، لا تريد أن تتذكر. من يريد أن يسمع أخبار التدهور اليومية في كلّ شيء؟ يلجأ الكثيرون إلى متابعة مسلسلات مترجمة من بلاد بعيدة. سياحة نفسية، تقول في نفسك، لتلاشي القدرة على السفر. السفر بحاجة إلى العملة الصعبة التي صارت فعلاً صعبة.

بيروت العتيقة تطلّ برأسها من تحت أسفلت المدينة. تنبثق أوراق التين الفتية من بين حجارة الرصيف الذي نسيته البلدية. تبدو كذكرى لشجرة قديمة تأبى مبارحة المكان. أصبحت زيارات الكنّاسين والزبّالين نادرة إلا إذا دسست في أياديهم بعض النقود. يتجمع براز الكلاب تحت أشجار الرصيف الذي باتت تفوح منه رائحة بول القطط التي حددت مناطقها كما تفعل الأسود في الغابة. وكالغابة، نما شجر الرصيف من دون تقليم عمّال البلدية الموسمي لأغصانه. تدلّت فروعه مجبرة المارة على الانحناء أكثر فأكثر حتى يكاد يستحيل المشي تحته.

في الليل تكاد بيروت تختفي في العتمة الدامسة. يتفق تجّار شارع بدارو الذي ورث شوارع أخرى في حياة الليل والسهر، على إضاءة مصابيح البلدية عبر مولد كهربائي. تخرج ليلاً من شارع جانبي معتم تماماً، إلى الشارع المضاء فتظن لوهلة أنك ركبت آلة الزمن عائداً إلى زمن آخر للمدينة: الملاهي ممتلئة والمطاعم أيضاً بكل من يستطيع الحصول على العملة الخضراء.

 

في الأحياء القديمة، تتوب بعض الدكاكين إلى مهنها التي كادت تندثر. يبدو أصحابها كأنهم من جيل واحد. كلهم في عمر التقاعد أو أكبر بقليل. في حي بربور الشعبي، عاد الخياط المسن إلى العمل بعدما كان قد عرض دكانه للبيع طوال ثلاث سنوات دون أن يجد مشترياً. كذلك فعل الكندرجي الأرمني في فرن الشُبّاك. عاد إلى وضع المسامير في فمه مستلاً إياها واحداً تلو آخر يثبتها في نعل الحذاء بمطرقته. كان سعيداً كمن استرجع شبابه، وقد عكف على تصليح ما تيسّر من أحذية لا تنفك تتكوّم في أكياس بلاستيكية أمامه. كانت كلفة التصليح تساوي ثمن الحذاء صنع الصين. اليوم أصبح الحذاء الصيني المستورد ترفاً بفضل عدوّه اللدود الدولار.

شريعة الغاب تعود لتبسط سلطتها بانحسار سلطة الدولة. لم يعد أحد يخاف من خرق قوانين الفسحة العامة، البارات والملاهي صفّت الكراسي والطاولات في كامل الرصيف أمامها، في حين لعلعت أصوات حفلاتها الصاخبة حتى الصباح. مولدات فردية ممنوعة تدور بضجيجها ودخانها الأسود، سيارات مركونة على الرصيف، ودراجات نارية تزاحم المشاة على ما تبقى منه. انقطاع متنقل في المياه. وزارة الصحة تكتشف مياهاً ملوّثة بالكوليرا تباع في المحلات، وفي بضع آبار تشرب منها أحياء فقيرة. الفقراء يهجمون على عمّال البلدية الذين أتوا لإقفال البئر الموبوءة، ويمنعوهم بتهمة أنهم في خدمة مافيا بيع مياه الصهاريج. لا ثقة بشيء أو بأحد. باصات غير مرخصة تسير في الشوارع وعشرات الباصات الممنوحة هبة من فرنسا ما زالت منذ شهور في مرآب الدولة. مدرسة تنهار على تلاميذها وتقتل مراهقة. زوارق هجرة غير شرعية لا تكف عن المغادرة من شمال لبنان إلى جنوبه. تغادر ولا تعرف بها إلا مع خبر غرقها. بعض الجثث تؤوب طافية بعد أسابيع إلى شواطئ الوطن المنبوذ.

على بعد أمتار من نقطة للجيش وأمام الكنيسة الجميلة، وقف صبي في العاشرة ربما، داخل مستوعب النفايات، وأخذ يرمي إلى الرصيف قناني البلاستيك والعبوات المعدنية التي يسترزق من جمعها. بدا غير مبالٍ أو خائف من أحد. يتوقف لحظة ليلاعب الهرّ الصغير الذي تسلّق حافة المستوعب، ثم يعود إلى عمله.

 

في الباص الشعبي رقم 12، لا مكان لموطئ قدم. لا تزال الساعة السابعة صباحاً. أما عصراً، وقت انصراف الموظفين، فقد تقف لساعة أو أكثر بانتظار باص فارغ. انتشرت الباصات الخاصة وتكاثرت دافعةً السرفيس، سيارة الأجرة الجماعية التقليدية إلى خلفية المشهد البيروتي. لم يعد استقلال السرفيس يومياً ممكناً في ظل انهيار العملة الوطنية والارتفاع الجنوني في أسعار المحروقات عالمياً.

باصات النقل المشترك الخاصة متهالكة، متسخة، لا مواعيد محددة لها، ولا أسعار ثابته للتذاكر. غالبية سائقيها من العمّال الأجانب الذين لا حقوق لهم، أما ركابها فخليط مستجد من طبقة فقيرة وقدامى الطبقة المتوسطة. أجلس في إحداها منتظرة اكتمال الركاب، فتصعد بعدي المتسوّلة التي كانت تستجديني ثمن ربطة خبز منذ قليل. يصعد المفتش للتفتيش عن التذاكر ثلاث مرات أحياناً في رحلة لا تتجاوز الكيلومترات الخمس أو الست. تقول في نفسك إنّ التفتيش في المطار لا يصل إلى هذا الحد.

لا تزال هناك فسحة بسيطة في بيروت للتنفس، البحر. لكنّ علاقة بيروت ببحرها تغيّرت منذ عقود. باتت علاقة سياحية. كأنّ البحر نوع من «كارت بوستال». مجرّد منظر تتأمله المدينة كسائحة مستلقية على «الشيزلونغ» في الشمس.

في ميناء طرابلس مثلاً تتزاحم قوارب النزهة البحرية وسوق السمك وورش صناعة القوارب، فضلاً عن مطاعم السمك الكبيرة والصغيرة. هناك ملاحات في قرى بحرية أخرى كالقلمون وأنفة، هناك صيادون وبسطات للغلال البحرية وأدوات الصيد. هنا في العاصمة، حالت الأبراج المحدثة الثراء بين البيارتة وبحرهم. صادرت المرافئ القديمة ومواطئ قدم الصيادين.

تستقلّ الباص البحري رقم 15. تتنبه ما أن تحاذي أطلال المرفأ أنك نسيت النزول في محطتك لاستغراقك في تأمّل البحر. تبتسم ساخراً لمشهد تمثال «المغترب» ينتصب «سالماً غانماً» بشرواله وسط دمار المرفأ والأهراءات. وحده نجا من الانفجار الرهيب. يا لبلاغة المشهد!

غير بعيد عن تمثال الشهداء الذين يبجلهم تاريخ البلاد الرسمي، ويختلف اللبنانيون في تقييم «شهادتهم»، تبدو الشعارات المخطوطة على جدران الأبنية والشوارع الأكثر تعبيراً عن بيروت اليوم. «يسقط حكم المصرف» تكاد تكون مخطوطة في كل مكان. سقط البلد والناس ولم يسقط المصرف.

«المخيّلة السياسية مقاومة». عبارة كتبها أحدهم على جدار في وسط البلد الذي اجتاحته تظاهرات واشتباكات منذ 17 تشرين الشهير. تبرز العبارة بين آلاف الشتائم والشعارات التي خطّها متظاهرون غاضبون تباروا في رجم النظام والسياسيين والمصارف والأحزاب و ... بعضهم. تبرز العبارة كشجرة ليمون مضيئة بثمارها البرتقالية في غابة محترقة.

 

في المخيّم، يجتمع المعارف القدامى لتعزية صديقهم بوفاة والدته. لبنانيون وأجانب متعاطفون مع فلسطين، وفلسطينيون من قدامى الأحزاب اليسارية والقومية العربية. فجأة، يتجمع في صالون العزاء جزء من «بازل» لصورة بيروت كان لها معنى ذات يوم.

غير بعيد عنه، بين مركز ضخم لفرز الخردة، ونقطة للجيش عند مستديرة شاتيلا، توجد قطعة أخرى من تلك «البازل» الجميلة والأحب إلى القلب: «مثوى شهداء فلسطين». هنا تختلط قبور المسيحيين بالمسلمين، العلمانيين بالمؤمنين، الملحدين بالشيوعيين، النساء بالرجال، العرب بالأجانب. مقبرة فريدة من نوعها في هذا البلد الذي تمتلكه الطوائف. مناضلون جمعتهم تلك «البيروت» التي تمنيت دوماً لو ولدت في زمانها.

لا أحب بيروت أيامنا. لا أحبها ولا أكرهها. تبدو لي، أنا ابنة المناطق المهملة، كزوجة الأب في الحكايات: أنانية، مزيفة العاطفة، لا تكف عن محاولة دفعي إلى المغادرة.

لكني هذه المرة لن أغادر. المخيّلة السياسية مقاومة. صحيح. لكنّ بيروت استنفدت مخيّلتي. لن أغادر. ليس لأني «صامدون هنا» كما تقول الأغنية، بل مجرّد «باقون». لأنه لا خيار.

ضحى شمس

صحافية لبنانية برز نشاطها الأساس في جريدتي السفير والأخبار، وهي تكتب حالياً في موقع «أوريان 21» وتدير مدوّنتها «حكي سرفيسات». عملت كمحققة ميدانية، ومراسلة حروب، ومثّلت منظمة مراسلون بلا حدود في المنطقة لعشر سنوات، كما أنّها عملت ملحقة إعلامية للسيّدة فيروز طوال أربعة عشر عاماً.

×