10 كانون الأول 2024
21 تشرين الثاني 2022
العدد الأول
كنتَ تخاف الجن، إلى أن اكتشفتَ خوفاً أعظم.
اعتدتَ في صغرك أن تفزعك تلك الكائنات الخفيّة التي تطلع عليك مترقبةً فرصة الاقتناص منك فلا تعرف أين تختبئ، كنت دائماً تبحث عنها في الزوايا والظلمات، لذلك كنت تخشى الزوايا، وكنت تخشى الظلمات، لا تنكر ذلك... ما زلتَ تذكر القصص التي يحكيها لك جدك عن مغامراته مع الكائنات الأسطورية تحت النخلة القديمة والقمر ينثر ضوءاً خفيفاً على الجريد، تحاول جاهداً ألَّا تنظر إلى النخلة حتى لا تكتشف الأعين الحمر تنتظر أن تفترس روحك، اعترف أنّك كدت تهلك نفسك خوفاً، هل تذكر؟ أنا أذكر، لقد كنتَ في السادسة عشر عندما اخترق الظلام رهبتك وأنت تعتقد أنّ الكائنات ستتلبسك في تلك الليلة السوداء، اجتزتَ البئر القديمة التي قالت الحكايات إنّها تصدر عويلاً عند الغروب لرجل مات فيها أو لروح عتيقة تتلبسها، كان البوْل وسط ارتعادك قد بدأ ينزل فيما أنت تتحرّك وحدك في الجنان الخلفي لمنزلكم، شعرت بأنّ أحدهم يلاحقك، أحسست بأقدامه، بدفء هالته في برد الليل، صارت خطواتك أسرع، لم تكن تدرك أنّك تحمل سفرة من أكواب القهوة والمياه لوالدك نحو المربوعة عندما جريتَ خوفاً فسقط كلّ شيء أمامك، انزلقت المكوّنات وانكسرت فحرقت يديك بالقهوة الساخنة ودخلت القطع الخزفية والزجاجية في جسدك، لقد آذيتَ مؤخرتك وظهرك، وما زالت علامات العملية الجراحية منقوشة في جسدك.
ذلك زمن خفت فيه من ظلِّك، لكنك الآن عندما اكتشفت الكائن الذي عليك حقاً أن تخافه، أن ترتعد منه... أن تقتل نفسك قبل أن يقترب منك، أصبحت تدرك أنّ كافة مخاوف الطفولة من الجن، الكلاب، القطط، الله، الشيطان، الجحيم، الظلام، الإبر، المستشفيات، المرض، وما تبقى من الأمراض التي أصبت بها، لا تساوي خوفك من هذا الكائن، إنك تراه... إنه يراك، إنك تحتكّ به في أيامك كلّها؛ إنّه الإنسان، الإنسان الليبي لنكون واضحَين.
منذ اكتشفت هذا الخوف العظيم وأنت تتخبط في بارانويا تكاد تخنق أنفاسك، لم يغادرك العرق لحظة، الأرق، الإحساس المثقل بأنّه يمكن في أيّ لحظة أن تنتهي حياتك بسببه، يمكنه أن يقتلك بكلماته، بنظراته، بملامسته لك، بأسلحته، بسجونه، بماله، بكلّ ما يملك ويفتخر به في هذه الحياة، وأنت لم تكن يوماً ذلك الشخص الذي يمكنه حقاً أن يؤثّر في مسيرة المجتمع أو يشكّل خطراً على حياة أحدهم، تعلمتَ أن تلتصق بالحائط، لا تعارض، لا تتحدث، لا تفعل أيّ شيء يمكنه أن يجعل عين المجتمع الذي يحيط بك تسلّط عليك، تسبح دائماً في مجرّة الوقت ملتفتاً إلى كلّ نفَسٍ، بؤبؤك كان منفتحاً كأنه سينفلت من جمجمتك، يداك دائماً على صدرك تحاولان أن تسكتا النبض السريع لفؤادك، شعرك المنكوش يزداد اضطراباً عندما تغصبك الحياة على الخروج من شقتك فقط لتجري وراءها.
تستيقظ صباحاً هَلِعاً، تجري وراء النافذة لتراقب إن كان ثمة من يراقبك، تبحث في الشقة عن قطعة قد تكون حُرِّكت من الأثاث الذي تصفّه في كلّ ليلة لتعرف إذا ما دخل أحدهم في نومك، هذا إن حظيت بالنوم حقاً، فأحياناً كان النوم أبعد أصدقائك معرفةً بك إلى أن يغافلك الأرق والتعب فتسقط نائماً في إحدى زوايا المكان، تتحرّك لتتأكد من الأقفال التي وضعتها على الباب، تنتابك راحة تشعِرك بلذة، كانت تلك أفضل لحظات حياتك؛ تتمشى نحو الحمام لتغسل وجهك، تحدّق دائماً في المرآة، فأنت لا تريد أن يغافلك الموت، كنت تغسل وجهك بطريقة مضحكة، تفتح الصنبور وتنظر إلى المرآة، تحرّك يديك تحتها حتى تلامسان الماء، ثم ترفعهما ببطء وأنت ما زلت تحدّق في وجهك وتغسله بسرعة... تلك هي أضعف اللحظات… أنت تعرف أنّ الحمام هو أسوأ مكان لك؛ كان كذلك عندما كنت تخاف من الجن؛ إنّ الجن يسكن الحمامات، المراحيض والمجاري؛ هكذا علموك... لكنّهم لم يعلموك أنّ أغلب الجرائم السينمائية تحدث في الحمام، تعلمت ذلك لوحدك: الحمام، الطريق العام، السيارة، الطرقات الخلفية، المكتب، المقاهي، هذه أخطر الأماكن بالنسبة لك... تتناول وجبة إفطارك صحبة الهدوء بعد أن تنهي المهمة، تفكّر بأنّه عليك حقاً أن تبقى في المنزل هذا اليوم، لقد تعبتَ من تلك المشاوير الخارجية كلّها، العمل، الحياة اليومية، لقد فكّرتَ مراراً في كلّ ليلة أنّ اليوم التالي هو آخر أيامك في العمل، لكنك ما زلت تتحلى ببعضٍ من الشجاعة للخروج، تقف لربع ساعة أمام الباب تحاول أن تقنع نفسك بعدم جدوى الذهاب إلى العمل، لكنك ستموت جوعاً تقول، تحدِّثك نفسك بأنّ الموت جوعاً أفضل بكثير من الموت بسبب أحد مكوّنات المجتمع الذين ينتظرونك خارجاً: إنّهم متوحشون، قتلة، ممثلون، همج، وينتظرون حقاً أن يقتنصوك.
ثم تشغّل محرّك السيارة، تربط حزامك، تراقب المرايا الثلاث، وتنضم إلى زحام الطريق، لا تتلفت يميناً أو يساراً، عيناك على الطريق أولاً ثم على المرايا، وعندما يساورك الشك بأنّ سيارة ما تلاحقك، تغيّر طريقك، تدخل الشوارع المليئة بالعاطلين من العمل، الواقفين في الزوايا، العجزة والأطفال، تحاول قدر الإمكان ألَّا تقلق راحة يوم أحدهم، تصطنع الابتسامات الموارية عندما يمرّ شخص أمام سيارتك يحدّق في وجهك بعبوس، تصطنع البراءة عندما تحاول مجموعة من الأطفال المشاغبين اعتراض طريقك واللعب على سيارتك، إنّ المكابح هي صديقتك، وعليك أيضاً أن تراقب الشوارع وألَّا يتضح عليك أنّك تراقبها في الوقت نفسه، الوحوش... الوحوش تحيط بك، عندما تصل إلى المكتب تحمد الله قليلاً على سلامتك لأنّه الآن عليك أن تتعامل مع وحوش أقل حدّة من وحوش الشوارع، إنّ زملاءك يملون عليك الأسئلة والكلمات والابتسامات المزعجة، لا أحد يدرك فرحتك عندما تجلس في مكتبك حيث يحميك الحائط الذي خلفك، تلهي نفسك بالعمل والأوراق والحاسوب حتى لا يقوم أحدهم بمقاطعتك، لقد تعلمت أنّه عليك دائماً ألَّا تظهر للوحوش خوفَك منها، إنّها تشمُّ رائحة الخوف، الجن يشمُّ رائحة الخوف، وكذلك هؤلاء، ارتباكك في الحديث معهم قد يدل على أنّك خجول، ولكن يجب ألَّا يدل على أنّك جبان، هل تتذكر تلك المرّة التي ظهر فيها خوفك؟ عندما رأيت المدير واقفاً أمامك بعينين حادتين وبنيّة في العراك، كان يؤنبك، أو شيئ كهذا، لكنّك لم تسمع كلماته، كلّ ما سمعتَ هو زئيره، وكلّ ما أحسستَ به هي تلك الرعدة التي جعلت يديك ترتعشان، كان واقفاً أمامك مزمجراً بربطة عنقه وملابسه الإفرنجية ووجهه المحروق، كنت تشعر بيدك المحروقة وتحكّها كأنك تستذكر تلك الذكرى الأليمة، أردت أن تهرب لكنّه كان يحاصرك، أردت أن تدفن رأسك في خشب المكتب حتى يختفي صوته، ولكن الخشب كان عصياً عليك، كدت أن تقول له: إنني أستقيل... لا يمكنني أن أحتمل المزيد، توقّف رجاءً، توقّف… تعبتُ من التمثيليات التي تظهرونها، تعبتُ من الأوامر، تعبتُ من أن أشعر بأنني مستضعف في هذا المكان، تعبتُ… تعبتُ! لكنك، لم تحرِّك ساكناً، كانت يداك قلقتين فقط، وكان وجهك يصير أكثر شبهاً بالطماطم، وكان العرق يمكنه إذا استمر أن يملأ حوض استحمام، وعندما غادرك تحرّكت مسرعاً نحو الحمام لتبول. إنّ حالتك هي عذاب أليم.
لكن كلّ ذلك يعدّ لعب أطفال أمام الحادثة التي جعلتك حقاً تستعمل كامل حواسك لتنقذك وتنفذ بجلدك، قل لي: ما شعورك الآن وأنت مقرفص في زاوية من زوايا غرفة نومك لساعات؟
لقد كنتَ تتخذ طرقاتك الاعتيادية للخروج من أرق الحياة نحو الحوش، تنتابك ذكرى والديْك والمشعوذ الذي قال لهما إنّ جناً قوياً يتلبسك، لا بدّ أنّ أحدهم ألقى تعويذةً عليك، ذهبا بك إليه ليجدا الحل، أشياء غريبة رأيتها وسمعتها في ذلك المكان القديم المبني بالطوب كحوش جدك، رائحة البخور، والدم، والدجاج، والماشية، والقطط التي تقطنه صحبة «الشيخ» الذي ظلّ يحرّك لسانه بكلمات من القرآن مخلوطة بأخرى مجهولة يحاول فيها معرفة ما يحلّ بك، قال بعدما قام بحركاته: إنّه ملبوس... بأحد الأسياد، يسمّونه «الخوّاف» لأنّه كان يهرب منهم جميعاً خوفاً، والآن تلبَّس ابنكما ولا يريد الخروج حتى لا يمسكوا به، الأمر معقّد... لا أعتقد أنّه سيخرج لكنني سأحاول معه، وبعد جلسات وجلسات قال الشيخ: لا فائدة... ستتطوّر حالته عن قريب، تعود بك الحياة إلى مجاريها عندما ارتطمَتْ قطة بسيارتك، لم تفلح المكابح فدهستها، اكتشفت أنّك قد انحرفتَ عن الطريق التي تتخذها لتجد نفسك أمام نقطة تفتيش أمنية، كنت دائماً تتحاشى نقاط التفتيش، فيها أسوأ الليبيين، هكذا سمعت في المواقع الإلكترونية التي تتصفحها في الإنترنت، قصصاً رهيبة سمعتها عن هؤلاء، وعن غيرهم من حملة السلاح.... تناسيت أمر القطة، وجدت نفسك في زاوية ضيقة. أوقفك الفتى حامل الكلاشنكوف، كان يرتدي سروال جينز، شعره مشعث، لحيته تحاول أن تنبت بأيّ ثمن لكن من دون فائدة، يمشي على فردتي الشبشب موجهاً السلاح بقربك آمراً إيّاك بأن تفتح النافذة: من أنت؟ من أين أتيت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ما الذي تحمله في السيارة؟ هل هي ملكك؟ أين هو مسقط رأسك؟ هل تعرف فلاناً؟ هل هناك أيّ ممنوعات؟ هل تحمل سلاحاً ما؟ كان يملي عليك سيلاً من الأسئلة دون توقف، وكنت تجيبه مرتعداً حتى توقف قليلاً عن الحديث ليشمّ ما بداخل صندوق السيارة، عاد إليك ليقول: اركن سيارتك يميناً... إنّ هناك أمراً ما فيها، أشعلت سيجارة، كنت لا تدخن إلا حينما يساورك القلق، كنت دائماً تفعل ذلك، الآن خرجت يداك عن سيطرتك وكانت السيجارة ترقص في الهواء بين إصبعيك، سألك: ما بك؟ لماذا ترتعد؟ لاحظَ انفعالك، رفعَ السلاح نحوك... ازداد خوفك، تسارعت نبضات قلبك فيما هو ينده أحد زملائه ليساعده في قضيتك، كان يصيح بك بأن تبقى في السيارة حتى يأمرك هو بالخروج منها، كنت هَلِعاً… بدأتَ تتمتِم بعبارات من قبيل «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وتقرأ آيات من القرآن، تلك الحلول التي تعلمتها عندما ينتابك الخوف من الجن ولكن، كان جسمك ينتفض داخل السيارة وتحاول أن تدفن وجهك في المقود فيما هو يهددك، نظرت إلى مرآة السيارة ورأيت صديقه يقترب، كان أكبر... أكثر توحشاً، تذكرت مديرك في العمل، الرغبة الملحة في الهرب التي تلبستك وهو يصيح في وجهك، فجأة دون أن تكون لك أيّ قوة قررت قدمك أن تضغط على البنزين فشبّت السيارة مسرعة وكدت تموت مرة أخرى... اخترقت الرصاصات زجاج السيارة ولكن سرعتك الجنونية كانت في نجدتك، لم تكن قادراً حقاً على معرفة ما يجري، كأنّ شخصاً آخر يتحكّم بتحركاتك، كدت ترتطم بسيارة أخرى وكدت أن تنهي حياتك، بقيت تنظر برعب نحو المرآة معتقداً أنّ أولئك المسلحين سيلحقون بك لا محالة، إنّك انتهيت... منذ قررت أن تهرب منهم أعلنت للجميع أنك تخافهم، والآن يستطيعون أن يشمُّوا رائحة خوفك.
عند ذلك ماذا فعلت؟ لقد قضيت أياماً محبوساً في البيت ظناً منك بأنّ الجميع سيهاجمونك لا محالة، لقد تعرفوا على رائحتك، جرّبت العطور والروائح كلّها، جرّبت أن تخفي الرائحة النفّاذة لخوفك، ولكن من دون فائدة، مضى شهر على حبسك لنفسك، قاومت الشعور بالجوع، والحاجة إلى ضوء الشمس، والملل، والخمول، حاربت العطش في آخر الأيام دون أن تحسب حساب الحياة ونفاد خزينتك من المؤونة، عشت على الخبز القاسي وماء الصنبور وأشياء لم تتوقع أنك ستأكلها يوماً، حتى انتهى كلّ شيء... لكنك أحسست بالأمان، ركّبت قفلاً إضافياً للمنزل، حبست ضوء الله عن نفسك، وعشت على ضوء الحكومة الذي يختفي أحياناً حتى لنصف يوم، وكنت في العتمة تستذكر طفولتك التي خفت فيها من الظلام، أشعلت شمعة في كلّ مرّة وجعلتها أمامك فيما أنت جالس في زاوية غرفتك التي طالما أحسست بالأمان فيها، تمنيت أن يزورك أحد أقاربك لكنك تركتهم جميعاً بعيداً في القرية بحثاً عن لقمة العيش... فكّرت في ميزانيتك من المال، في الشقة المستأجرة التي تبقت أربعة شهور على نهاية إيجارك السنوي لها، في حاجتك إلى شراء بعض المؤن، وفي حاجتك إلى العمل، جعلك خوفك محصوراً في زواية وكلّ الضوء الذي تحتاج هو شمعة لا لترى طريقك ولكن لترى من في طريقك، وهو سيجبرك إن لم تعمل على أن تهيم في الشوارع هارباً، سيلقي بك في أحضان الكائنات التي تخافها، إنّك تعيش في معضلة يا صديقي... الأسهل، الأسهل أن تتخلص من خوفك أو من حياتك، ها ما رأيك؟ ولكن يمكنك الاتصال بأحد أقاربك الأحياء، لا… لا، ليس هناك ضامن بأنّك سترتاح لهم، ثم ما الذي أتى بك إلى المدينة سوى خوفك من قريتك؟
تشجعت أخيراً، أخرجك الجوع لأنّك لم ترد أن تموت، ملأت جيوبك بالنقود وأسرعت ليلاً نحو أقرب دكان، كان عليك أن تجتاز الشارع المظلم، وفي حمى تحرّكاتك مررت بمجموعة من المتسكعين الذين كانت أصواتهم تتعالى، جاهدت لأن تلقي عليهم السلام:
• ال... س... س... س... س... سلامووو، ع... ع... ليكم.
قهقه الجمع، وكرّر أحدهم أسلوبك قائلاً لك:
• و... و... و... ع... ع... ع... عليك السّ... س... سلااااام. هاهاهاهاهاها
كان عليك أن تخنع رأسك للأرض وتحرّك قدميك أسرع، ألقيت عند انعطافك بعيداً عنهم نظرة إلى الخلف لتتأكد ألَّا أحد منهم يتبعك، إنّك تريد أن تصل إلى الدكان في أسرع وقت ممكن، دون أيّ أضرار... دلفت إلى المبنى والعرق يملأ جبينك ونفسك يكاد ينقطع، كان البائع يدير حواراً مع أحد الزبائن حول «الفتى الذي وجدوه ملقى بجانب براميل القمامة، أمام المسجد... صباحاً»، وعندما نظر إليك ابتسم ونادى باسمك قائلاً: «كيف حالك؟ أين... لم نعد نراك؟ هل أصبحت تشتري من صاحبنا؟ قلت لك إنه يبيع بالحرام»، ولكنك لم ترِد أن تدخل في نقاش، إنّك منصت دائماً، إنّك لا تناقش، لا تشارك أفكارك، لا تريد أن يعرف الذي يبيع بالحرام أنّك تعرف أنّه يبيع بالحرام فيحاول أن يفعل بك شيئاً كالفتى الملقى في براميل القمامة، ابتسمت ثم بحثت عن المؤن التي تحتاجها لأسبوع، وبقيت تنصت إلى البائع يحكي القصص السيئة عن المكان الذي تعيش فيه، ابن فلان... جارك، يبيع الحبوب المهلوسة، إنّه مجرم، فلان... أحد جيرانك البعيدين ألقِي القبض عليه لأنّه كان أحد أفراد مليشيا حاربت مليشيا أخرى، والسيّدة حياة تشتغل بالدعارة وقيل إنّها تحمل فيروس الإيدز ومن الجيّد أنّك تبقي كاتسوك حيث هو، تفحصت وأنت تمسك علبة التونة بلد المنشأ، تاريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحية، المواد المضافة وكلّ شيء، كان صاحب الدكان قد اعتاد على تأخرك في الشراء؛ إنّك لا تريد أن تمرض أو يتم تسميمك من هؤلاء، اشتريت كلّ ما تحتاج وحاولت ألَّا تجعل عينيك تتصلان بعيني البائع حتى لا يرى ما فعله بك شهر كامل وأنت محاط بالجدران، شكرته سريعاً، وضعت المال في جفل وتحرّكت نحو الحوش، كانت الرحلة مؤلمة حقيقةً... إن كان هناك من يراقبك سيضحك حتى الموت من تصرفاتك وحركاتك والتفاتاتك، ولكن ما إن يستمع لأفكارك سيقتله الضحك.
ها أنت ذا إذاً، ستعيش لأسبوع آخر بعيداً عن الجوع والماء المالحة، ماذا ستفعل بعد ذلك؟ ستعود إلى نفس الدائرة، سوف يخرجك الجوع مرة أخرى، عليك حقاً أن تتوقف عن هذا الهراء، اسمع! عندي لك أفكار رائعة تعلمتها في خلال استماعك لقصص الإرهاب التي يلقي بها هؤلاء القوم، إنني أعرف قصة بعينها ستجعلك تتشوق إلى أن تجرّبها، نشتري حبلاً… نربطه بالثريا، نربطه جيداً، محكماً نربطه، ثم نصنع أنشوطة بعقدة يمكنها أن تتحمل وزنك، نضع كرسياً تحت الثريا ونلف رقبتك بالأنشوطة، نحكم إغلاق الحلقة وندفع الكرسي، سترتاح صدّقني... وستنتقم من الجن الذي يسكنك بحيث تجعله يموت معك، ها؟ إنني أعرف دكاناً ممتازاً يبيع أمثال هذه الأشياء، هيا لنخرج مجدداً... شغِّل محرّك السيارة وسآخذك في آخر رحلات العذاب بعيداً عن هذا العالم، ستكون على الأقل الكائن الليبي الوحيد الذي يمكنه أن يقتلك، لن يتعيّن عليك أبداً أن تنصت إليهم وهم يقتلونك بكلماتهم، منتجاتهم، عراكهم، أسلحتهم، نظراتهم، خرافاتهم، نواياهم، أو حتى سمائهم.
خرجتَ، ركبتَ السيارة وتحرّكتَ في الطريق... كانت شمس النهار تكاد تحرق جلدك الذي نسيَ ملمس أشعتها، كنت تسير بسرعة فائقة حتى لا يتمكن أحدهم من ملاحقتك، توقفت أمام الدكان، دخلت مسرعاً، اخترت أفضل حبل لديه، دفعت النقود، وخرجت مسرعاً إلى المنزل، المشقة المشقة وانتحار رائد الرعب، تمكنت أن تتنفس الصعداء عندما ربطت الحبل وجهّزت كلّ شيء، أتيت بالكرسي وصعدت، كنتَ تحاول أن تجد سبباً منطقياً لعدم خوفك منهم، إنهم أناس طيبون، هكذا قيل لك، إنهم حفظة القرآن، شعب نية يعيش أيامه مغلوباً على أمره مثلك، إنهم مسلمون ومسالمون والقصص التي تسمعها لا تشكِّل سوى شيئ بسيط عن الحثالة الذين يعيشون معهم، إنهم عائلتك، أخوتك، أخواتك، أعمامك، عماتك، أخوالك، خالاتك، زملاؤك في الدراسة والعمل، وكلّ شيء... هل تذكر؟ هل تذكر أنّك لم تكن تخاف منهم من قبل، بل كنت تخاف من الجن فقط؟ إنّه الجن الذي يسكنك هو من يجعلك مرعوباً منهم، لا شيء غير ذلك، ربما عليك أن تحاول أن تشنقه هو بدل أن تشنق نفسك، وضعتَ الحبل حول رقبتك، مرّ شريط حياتك كما يمرّ على الجميع في نهاية حياتهم، أحكمت إغلاق الحبل، وأسقطتَ الكرسي وصرتَ تطير في الهواء... ها، إنك تشعر به، الموت يقترب، أنفاسك تتوقف... تنقطع، إنّ عضلات جسدك تحاول الهرب كعادتها، لكن الآن لا مفرّ، دقيقة أو اثنتان وستفقد حياتك وترتاح، هل تذكر ماذا كانوا يقولون عن المرضى الذين ينال منهم الموت: «لقد ارتاح»، سيقولون عنك الشيء ذاته، كان مجنوناً… والآن استرح... هيا يا صديقي، ارتح، اشششش... لا تقاوم، اششش… غب.
لكنك وعيتَ على رأسك يؤلمك، قطع الزجاج مرمية حولك وهناك خيط من الدم ينبع من رأسك، جسدك يؤلمك، رقبتك تؤلمك، وأنفاسك تؤلمك رغم أنّها عادت للتدفق في رئتيك من جديد، آه هل تشعر بالراحة في صدرك الآن؟ شعور الاختناق... سيئ، سيئ جداً، ولكنّك تخلّصت منه، هل يمكنك أن تتذكر ما حصل؟ الحبل على رقبتك، الثريا منزوعة ومتكسرة فوق رأسك ولا وجود لها في السقف الذي تحدّق به، لكنّ هناك شيئاً مختلفاً… شيء غريب داخلك بعيداً عن الألم، هناك إحساس جديد لم تشعر به من قبل، سمعت الجرس يرن، جاهدت نفسك على النهوض وتمكنت من ذلك، توقفت أمام الباب وحاولت أن تسترجع شعوراً ما كان يأتيك دائماً وأنت تقف هذه الوقفة: ما هو يا ترى؟ ابتعدَت الأفكار عنك عندما سمعتَ الصوت وراء الباب يناديك: افتح. عرفتَ صاحبه، إنّه صاحب الحوش جاء لتحصيل الإيجار، سلّمتَ عليه، دعوته إلى الداخل، سألك: ما بك؟ يبدو أنّك دخلت في شجار ما مع أحدهم؟ قلت له: لا لكنني سقطتُ من علي، لا عليك. حادثتَه بكلّ سهولة، هل كنت تفعل ذلك من قبل؟ ضحكتما وشربتما الشاي ودخنتمنا السجائر وقصّ عليك قصصاً عن أحد المستأجرين الذي يتاجر بالسلاح في شقته، وأنّه حاول أن يقتله عندما أراد أن يحصّل المال منه، خرج المستأجر سكّيراً يصيح في وجهه: البيت لساكنه يا قوّاد، الله ومعمر وليبيا وبس؛ ضحكتما معاً على العنف الذي حوّل المجتمع، قال لك إنّه للمرة الأولى لم يغضب حتى الحنق لتأخّر أحد المستأجرين عن الدفع، بل ضحك وأصرّ على أن يخبرك بالحكمة: «تبلّدت مشاعرنا»، هززت رأسك موافقاً، وأعطيته مستحقاته، آخر ما لديك في جيبك من مال. ستبحث عن عمل آخر، صحيح؟
خرجتَ، شغّلتَ محرّك السيارة وأردتَ أن تضيع في الطريق دون أن يخالجك أي شعور، كانت عضلات جسدك تريد أن تنعطف في أزقة عرفتها لكنّك امتنعتَ عن ذلك، تحرّكتَ واثقاً من نفسك، كانت عيناك تنظران إلى المرايا بين الفينة والأخرى، وعندما تتذكر أنه لا يتعيّن عليك فعل ذلك كنت تذكّر نفسك بأنّه عليك أن تركّز في الطريق أمامك، هناك شيء ناقص... هل هذه هي الحرية؟ هل تحررتَ فعلاً؟ خالجتك فرحة عارمة، نزلتَ في مقهى... طلبتَ القهوة وجلستَ تستمتع باللحظات، كان المقهى بالقرب من سوق شعبية في العاصمة طرابلس، سوق مملوءة بالناس، وصياحهم، وضحكاتهم، والفتيات، والمقهى مملوء بالروّاد، قاطع تلك الصياحات كلّها صوت إطلاق نار، شعرتَ بالقلق لهنيهة، ولكن سرعان ما ابتسمت «ها هم أولاء يمارسون حياتهم اليومية كما يجب، تبلّدت مشاعرنا»، لفتَ انتباهك شاب يسرع خارجاً من أحد أزقة السوق ناحية المقهى ويرمي البضاعةَ أمامه، كان يجري ناحيتك... ثم خرج شاب آخر يصيح به ساباً وشاتماً، كنتَ تضحك لهذا المنظر، بدا الجميع وقد اختطفهم الرهاب، البعض هرب من المكان، وآخرون أخذوا يبحثون عن مأمنٍ، لكنك كنتَ تجلس في المقهى تحتسي قهوتك، تدخّن سيجارتك ولا شيء يزعزع ثقتك بنفسك، كفاك العيش في خوف! لن يحدث أيّ شيء، مجرّد شابين يتلاحقان بالسلاح، لا شيء آخر.... صوت صفير رصاصة مرّت بجانب أذنك جعلتك تتوقف عن شرب القهوة، حدّقت في الشاب الذي يحاول الهرب فيما هو ينعطف بمحاذاتك ويلمس كتفك ثم يختفي، لكن آخر ما رأيتَ وأنت تبتسم... المسدس في يد الآخر وهو يطلق رصاصة الرحمة في رأسك.
تاجوراء 2016
كاتب ليبي، فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية – البوكر للعام 2022 عن روايته خبز على طاولة الخال ميلاد.