26 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

إرّي دي لوكا

رامي طويل

21 تشرين الثاني 2022

العدد الأول
ينبع التمايز في أعمال دي لوكا من حياته التي ينثرها في طيّات رواياته (المراسل)

في أزقّة نابولي وحواريها الضيّقة المتلاصقة المشبعة بملوحة البحر ورطوبته، بين الفقراء من صيّادين وعمّال وحرفيين وعاطلين من العمل نشأ الطفل هاري في غربة عن اسمه الذي يعاني أقرانه في نطقه. هو الاسم الذي اختارته الجدّة أميركية الأصل، التي وصلت إلى نابولي قبل سنوات بعيدة لتتزوج فيها وتغدو واحدة من أبنائها، دون أن يتلاشى من داخلها حنين لموطنها دفعها أن تطلق على حفيدها، المولود في 1950، اسم هاري، رغبةً منها أن يُنادى باسمٍ ولكنةٍ أميركيتين  «Harry» لتفاجأ بأنّ القوانين الإيطالية آنذاك تمنع تسجيل المواليد بأسماء أجنبية، ما اضطر الأبوين لتسجيل ابنهما باسم «Enrico»، الترجمة الإيطالية لاسم Harry. لكن الحلّ الذي أوجدته الأوراق الرسمية لم يسمح لأبناء نابولي بنطق الاسم بصيغته الأميركية، فلغتهم لا تعترف بحرفي H,Y إلا مكتوبين غير منطوقين، ما جعل الأولاد كلّهم ينادون رفيقهم باسم إرّي Erri مخلصين بذلك لخاصيّة لهجتهم النابوليتانية. الاسم الذي سيختاره Harry حين يغدو شاباً وفاءً منه أيضاً لنابوليتانيته ولرفاق الطفولة غير مدركٍ، آنذاك، أنّه الاسم الذي سيكرره لاحقاً، حين يغدو واحداً من روائيي جيله الأكثر أهميّة، كلّ من يقرأ له في شتّى أصقاع الأرض، وباللكنة النابوليتانية التي عشقها دوماً، ليكون أينما حلّ أو حلّت كتبه: إرّي دي لوكا.

 

ذاكرة الصوت

اللغة كائن حي. هي ابنة البيئة وأمّها في الآن ذاته. تنمو وتكتسب خصالها من الأرض التي تولد فيها لتغدو لاحقاً المؤثّرة والمؤلّفة لمعالم تلك الأرض وملامح أبنائها وإيماءاتهم ونكهات أطعمتها ورائحة هوائها المشبع بالنبرات تنطقها كما يليق بكائنٍ مخلوقٍ من الألفة. من هنا يمكن قراءة اللهجة النابوليتانية شديدة الخصوصية عن باقي لهجات المدن الإيطالية. إنها لهجةٌ، وإن تشاركت الكثير من الخصائص مع اللغة الإيطالية غير أنّها احتفظت لنفسها بسماتٍ وحتى قواعد شديدة الخصوصية. هي اللغة المتوجب نطقها بأصوات مرتفعة، أسوةً بالحال في غالبية المدن البحرية، كما لو أنّ الصوت في مواجهة المدى البحريّ المفتوح على اتساعه يحتاج قوّة مضاعفة لإرسال ذبذباته مخترقةً تيّارات من الهواء البحري دائم الحركة قبل بلوغها أذن المستمع. ما جعل الأصوات المرتفعة واحدة من سمات تلك المدينة التي ترتصّ بيوتها متلاصقةً فلا تعود حتى الجدران بقادرة على حجب الأصوات عن الآذان. 

هناك تلقّى دي لوكا الطفل حكاياته الأولى. عبر الجدران ستبلغه قصص الجيران وحكاياهم لتمتزج بأحاديث رفاق الطفولة وعائلاتهم إضافةً لحكايا أمّه التي سيعرف عبر صوتها، وبدقّة، ما تعنيه الحرب، هي التي عاشت ويلات الحرب العالمية الثانية شابّةً، حين كانت نابولي أكثر المدن الإيطالية عرضةً للقصف، والتي اضطرت للنوم عشرات المرات دون أن تخلع ملابسها أو حذاءها تحسباً لغارةٍ جويّة مفاجئة توجب عليها الهرب سريعاً إلى الملجأ حاملةً معها ما تيسّر من ضروريات. أصواتٌ كثيرة ستعشش في رأس الفتى فتجعله أميناً للغته الإيطالية ولهجته النابوليتانية قبل أن يدرك حتى أنّ تلك الأصوات وتلك اللغة ستكونان ذاكرته التي ستتفجّر أدباً حين يبلغ الأربعين من العمر.

 

بين الالتزام وأقدم مهنة في التاريخ 

لم يغادر دي لوكا نابولي حين بلغ الثامنة عشر من العمر، بل حملها في جوارحه وهو يمضي بعيداً عن رغبة والده بأن يكون ابنه دبلوماسياً، ليلتحق بالمظاهرات التي تجوب شوارع روما مطالبةً برحيل الأميركان عن فيتنام. وينتظم بعدها في صفوف sinistra extraparlamentare (يسار خارج البرلمان) وينخرط في منظمة Lotta Continua (نضال مستمر) اليسارية المتطرفة المعروفة بعمليات الاختطاف والثورة العنيفة، خلال سنوات عرفت في إيطاليا باسم «سنوات الرصاص» ليكون واحداً من مناضليها قبل أن يغادرها في العام 1974 مواصلاً نشاطه السياسي المطالب بحقوق العمال والطبقات الكادحة وتحقيق العدالة الاجتماعية فيما هو يتنقّل بين العديد من المهن الشاقة: حرفي يدوي، عامل في مصنع فيات للسيارات، عامل في مطار كاتانيا في صقلية، عامل بناء، سائق شاحنة. الأعمال التي سيقول عنها لاحقاً في إحدى رواياته: «لقد مارست أقدم مهنةٍ في التاريخ. ليست الدعارة حيث تبيع المرأة جسدها، بل ما يوازيها لدى الذكور، العامل الذي يبيع جسده كقوّة عاملة».

كان دي لوكا واحداً من الحالمين الساعين لتغيير العالم والانتصار لأوجاع الفقراء والمستضعفين الواحدة في كلّ مكان على هذه الأرض، ما يفسّر تطوعه بين عامي 1983 و1984 للعمل ضمن برنامج تأمين المياه للقرى الفقيرة في تنزانيا الإفريقية، كما لن يتردد في 1999، وقد صار كاتباً، بأن يعود لقيادة شاحنات المساعدات الإنسانية في بلغراد التي تتعرّض لقصف حلف الشمال الأطلسي أثناء حرب كوسوفو. ولن ينكفئ في 2013، وهو الكاتب ذائع الصيت عالمياً، عن مساندة حركة الاحتجاج على إنشاء سكة حديدية بين تورينو الإيطالية وليون الفرنسية، مشّجعاً على تخريبها لما يشوب عمليات إنشائها من فساد تديره المصارف، وأضرار سيلحقها المشروع بالبيئة دون أن يكون ذي عائد، ما يعني ضرراً كبيراً سيصيب أبناء المنطقة. موقف سيقود دي لوكا مجدداً إلى قاعات المحاكم التي خبرها شاباً، لتخلص المحاكمة إلى حكمٍ بسجنه لثمانية أشهر بعدما توقّع الجميع أن يتلقى حكماً بخمس سنوات من السجن، ما جعله يرفض استئناف الحكم بعد صدوره قائلاً إنّه وجد العقوبة التي ألحقت به أقلّ بكثير من التهم التي وجّهت إليه مشيراً بذلك إلى الغاية السياسية من محاكمته التي ترمز إلى محاكمة تاريخه اليساري النضالي.

لم يتلهَ دي لوكا بابتداع وابتكار نظريات وأطروحات ثورية بل شبك ذراعيه بأذرع الرفاق محمّلاً بمعاناة أبناء جلدته من رفاق الطفولة والشباب في نابولي، وزملاء الشقاء في كلّ المهن التي عمل بها، رافضاً على الدوام توصيف أيّ فعلٍ ثوريّ بالعمل التخريبي محيلاً تلك الأوصاف إلى قصور وخبث في استخدام اللغة من قبل السلطات التي تحاول تطويعها لإدراكها الأثر الكبير للغة على بنية المجتمع، باذلاً الكثير من الجهد لتوضيح الفروقات اللغوية عند استخدام المفردات، وأنّ «الإرهاب» يكون بتدمير المدن وقتل الأبرياء وليس بالتحركات الثوريّة.

 

الجبال ومتعة ما لا جدوى منه

غير بعيدٍ عن علاقته باللغة والصوت بلغ الطفل إرّي الشغف بالجبال من حكايات أبيه الذي عشقها بعدما أمضى سنواتٍ في جبال الألب مقاتلاً خلال الحرب العالمية الثانية قبل أن يرسل إلى ألبانيا حيث سيتم اعتقاله. لم يخبره أبوه الكثير عن قصص الحرب لكنّه روى له تفاصيل الجبال حتى صارت شغفاً يتطلع إليه الفتى وقد حفظ أغانيها التي ردّدها الأب الذي سيصحب ابنه في أوّل رحلةٍ لتسلق جبل فيزوف في نابولي لتبدأ مذ ذاك حكاية دي لوكا مع الجبال التي سيغدو متسلقاً محترفاً لها بعد بلوغه الثلاثين. فمن الشغف بتلك الأماكن الوعرة المعزولة، والرغبة بالاقتراب من السماء، واكتشاف البيئة البكر بعيداً عن تدخّل الإنسان فيها، والسعي إلى هدوء وصمتٍ يتيحان مساحةً أكثر رحابة للتفكير ومقاربة الحياة بوصفها تسلّقاً دائماً ينبغي معه الحذر في كلّ خطوة، إلى أن يسجل في العام 2002 رقماً قياسياً كأول رجل تخطّى الخمسين من العمر يتسلّق المسار 8b+، ويُتبع ذلك في العام 2005 برحلات إلى جبال الهملايا حيث سيتسلق العديد من القمم متطلعاً، ربّما، إلى قمّة إفرست في وقت لاحق. 

قد يفسّر ذلك الشغف بالجبال وخوض الوعورة شغفاً آخر تملّك دي لوكا فدفعه لتعلّم لغات قليلة التداول كالروسية والسواحلية واليديشية معيداً ترجمة بعض نصوص العهد القديم والإنجيل إليها رغبة منه، ربّما أيضاً، باكتشافها في حالتها البكر. 

هي اهتماماتٌ تتيح للمرء الخوض في مسارات مغايرة للمسارات الكلاسيكية التي سعت السلطات البشرية منذ آلاف السنين لرسمها بغية تحديد مساراتٍ تسهل فيها السيطرة على الإنسان. فإن كان بلوغ قمّةٍ لا يسعه إلا أن يكون فعلاً فردياً، فكذلك المعرفة المغايرة هي فعل فرديّ بعيداً عن السياق القطيعي، وفي كلتا الحالتين هي متعةُ ما لا جدوى منه، أو هي الجدوى الحقيقة لما لا جدوى منه، ولعلّ في الكتابة أيضاً شيء من هذا سيدفع دي لوكا في الأربعين من العمر لخوض وعورتها أيضاً.

 

المستحيل، ليس الآن... ليس هنا

هل هو حلمٌ مؤجّل، أو شغفٌ كان ينتظر النضوج، أو ربّما ذاكرة متخمة تحتاج التخفّف؟! الاحتمالات كثيرة، والنتيجة أنّ إرّي نشر روايته الأولى «ليس الآن، ليس هنا» في عمر الأربعين مستحضراً تفاصيل طفولته في نابولي راسماً مساراً دائرياً للزمن الروائي يغوص فيه بحثاً عن كيف حدث كلّ ذلك غير مكترث للحدث بذاته. هي بدايةٌ ستفصح عن روائيّ لا يشبه أبناء جيله من الروائيين، حيث سيخوض غمار الكتابة وفق مسارات خاصّة أشبه بالمسارات التي خاضها وحيداً في الجبال، يعيد اكتشاف لغته التي بقي أميناً لها فيما هو يعيد اكتشاف عوالم طفولته التي ظلّ على أمانته لها أيضاً. روايةٌ أولى تشي بأنها وإن كانت تتطلع نحو سماء مفتوحة تلامسها كقمّة جبلٍ إلّا أنّ جذورها راسخة في الأرض، ما سيتكرّس لاحقاً في أعماله التالية التي تعيد شخوصها إلى الأذهان سمات الشخصيّات الروائية الكلاسيكية الراسخة في تاريخ الأدب العالمي، وهو بذلك إنمّا يخوض في الآن الراهن غير متخلّ عن جذورٍ تمتدّ عميقاً مستمدةً النسغ من أرضٍ خصبةٍ حاضرةٍ في رأسه هو الذي أدمن القراءة مذ كان طفلاً.

«الحياة لقمة، وثمّة الكثير من الأحذية التي تحتاج إلى تصليح» يقول بطل روايته «جبل الرب»، مفتتحاً أنشودة روائية تروي هواجس فقراء أثقلهم الواقع فتطلّعوا إلى الحلم كخلاصٍ مشوبٍ بالشكّ: «نحن موجودون في هذا العالم نتيجة خطأ اقترفه الله، وغائبون عن الأنظار، فإذا ما أفلحت عين شريرة في اكتشافنا كان ذلك نهايتنا». وغير بعيد عن ذلك يقول في روايته «ثلاثة جياد»: «في وسع الحرب أن تكون جذابة. الديون، السرقات، القروض، العقود. تستطيع الحرب أن تحرق كلّ الوثائق. هي للبعض بمثابة غفران وللبعض الآخر فرصة للانتقام. ثم تحترق البيوت مع الأولاد الذين بداخلها. ويخسر الجميع». 

ليس السرد الروائيّ ما يميّز أعمال دي لوكا عن غيرها، ولا هي لغته المتراوحة بخفّةٍ بين الشعرية والنثرية، ولا هي مقدرته على رسمِ شخوصٍ ترسخ في ذاكرة القارئ. كلّ ذلك قد يكون سمات مشتركة مع كثيرين غيره. غير أنّ التمايز في أعمال دي لوكا ينبع من حياته التي ينثرها في طيّات رواياته. هو لا يكتب سيرةً ذاتية، غير أنّ بالإمكان العثور عليه إذا ما جمعت شظاياه المتوزعة على صفحات كتبه وفي ملامح شخوصه. فهو لم يمتهن الكتابة بل يمارسها كشغفٍ مماثل للكثير من الأشياء التي قام بها في حياته. لا تنفصل الكتابة عند دي لوكا عن الأعمال التي مارسها شاباً، ولا عن طفولته، ولا عن نضاله السياسي، أو تسلقه الجبال. الأمر الذي سيغدو جلياً في آخر أعماله «المستحيل» التي يعود فيها، انطلاقاً من واقعة محاكمته في العام 2015، إلى مناظرةٍ بين الواقع الراهن والتاريخ النضالي، رافضاً القول بفشل القيم التي آمن بها، مؤكداً انتماءه إلى الجيل الأكثر اضطهاداً في إيطاليا، وربّما الأكثر اضطهاداً من العالم الذي حلم بتغييره. شارحاً أن «المستحيل هو تعريف حدثٍ حتى اللحظة التي تسبقُ وقوعه» راسماً الصورة الأكثر وضوحاً لمسار حياته المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسارات التي خاضها في الجبال والتي جعلها نقطة الانطلاق في روايته كاشفاً من خلالها تفاصيل مسارات الحياة برمتها.

هو واحد من قلّةٍ نادرةٍ تماهى نتاجهم الأدبي مع حياتهم الفعلية إلى حدّ يصعب معه الفصل بينهما. ولا ضير بوصفه روائياً أو عامل بناء أو بستانياً أوسائق شاحنة أو متسلق جبال أو مناضلاً أو أو... فكلّها أعمال مارسها، وما يزال، بغية اكتشاف معنى الحياة والتأكيد أن المستحيل: ليس هنا... وليس الآن.

رامي طويل

كاتب ومترجم من سوريا، صدر له في الرواية: قبعة بيتهوفن (2021)؛ حيوات ناقصة (2018)؛ رقصة الظل الأخيرة (2014)؛ وفي القصة: امرأة عند النافذة (2022)؛ قبل أن تبرد القهوة (2015)؛ الخاتم (2008).

×