10 كانون الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

لكنّهم يقرعون الباب

دينو بوتزاتي

14 نيسان 2022

العدد التجريبي
بورتريه

صدرت العام 1940. ترجمة رامي طويل.

 

دخلت السيدة ماريّا غرون الصالون في الطابق الأرضي وبيدها مصنّف العمل. جالت بنظرها في المكان بغية الاطمئنان أنّ كلّ شيء يسير وفق الأنظمة العائلية. وضعت المصنّف على الطاولة ودنت من زهرية مليئة بالورود تشمّ رائحتها بلطف.

في الصالون كان زوجها ستيفانو والابن فيدريكو الذي ينادونه فيدري، يجلسان جوار المدفأة، فيما الابنة مستغرقة بالقراءة، والطبيب العجوز جينيو مارتورا، صديق العائلة، يهمّ بتدخين السيجار.

«لقد ذبلت جميعها. كلّها انتهت» تمتمت محدّثةً نفسها وهي تمرّر أصابعها على الزهور مداعبةً فتسقط بضع بتلاتٍ منها.

«ماما» نادت جورجينا من مكانها فوق الكنبة حيث هي جالسة تقرأ. كان الليل قد حلّ فعلاً ومصاريع النوافذ المرتفعة أغلقت كالعادة. في الخارج يواصل الهطول مطرٌ غزير. في نهاية الصالون، ناحيةَ الممرّ المفضي إلى المدخل، كانت ستارةٌ حمراء مهيبة تحجب القنطرة المفتوحة، وفي تلك اللحظة، وبسبب الضوء الشحيح، بدت سوداء.

«ماما»، قالت جورجينا، «هل تعرفين الكلبين الحجريين في الحديقة نهايةَ شارع شجر البلوط؟»

«كيف تخطر الكلاب الحجرية ببالكِ عزيزتي؟» أجابت الأمّ بلباقة وبلامبالاة، ثمّ أخذت مصنّف العمل وجلست في مكانها المعتاد جوار المصباح.

«هذا الصباح»، بدأت الفتاة اللطيفة تشرح، «بينما كنتُ أعبر في السيارة رأيتهما على عربة قرويّ بالقرب من الجسر».

بدا صوت الفتاة قوياً وسط الصمت. ابتسمت السيدة غرون بحذر وهي تتصفّح الجريدة ونظرت إلى زوجها كما لو أنها تأمل ألا يكون قد سمع ذلك.

«شيء جميل»، صاح الدكتور مارتورا، «لا ينقصنا غير القرويين يجولون بغية سرقة التماثيل. إنهم جامعو فن».

«وماذا بعد؟» سأل الأب يحثّ ابنته على متابعة الحديث.

«طلبتُ من بيرتو التوقّف والتوجّه للسؤال...»

ارتعش أنف السيدة غرون قليلاً، كعادته حين يتمّ التطرّق إلى مواضيع شائكة تحتاج الإسراع لمعالجتها. عليها أن تلوذ بالصمت فثمّة أمرٌ خفيّ مزعج خلف قصّة التمثالين.

«نعم، أنا طلبتُ أخذهما»، حاولت تسوية المسألة، «إنّهما قميئان».

من جوار المدفأة وصل صوت الأب عميقاً مرتجفاً بسبب الشيخوخة أو ربّما القلق: «لكن كيف؟ لماذا تطلبين أخذهما عزيزتي؟ إنّهما تمثالان قديمان. قطعتان أثريتان».

«لقد شرحتُ الأمر بطريقةً سيئة» قالت السيدة حريصةً على نبرتها اللطيفة. ("كم كنتُ حمقاء" فكّرت في هذه الأثناء. "ألم يكن بإمكاني العثور على شيء أفضل؟") «أجل؛ سبق أن طلبتُ إليكَ بطريقة مواربة وعبر المزاح أن تنزعهما».

«لكن ماما؛ اسمعي»، أصرّت الفتاة، «بيرتو سأل القروي وقال إنه عثر على الكلب عند ضفّة النهر».

صمتت وبدا لها أن المطر توقّف عن السقوط. لكن حين خيّم الصمت سُمع صوت المطر يواصل هطوله غزيراً ويتغلغل في أعماقهم مستحوذاً على أرواحهم (حتى لو لم يلحظ أحد ذلك).

«لماذا الكلب؟»، سأل الشاب فريدريكو دون أن يلتفت برأسه حتى، «ألم تقولي إنهما كانا اثنين؟»

«يا إلهي؛ كم أنت متحذلق»، أجابت جورجينا ضاحكةً، «لقد رأيتُ واحداً، لكن المرجّح أنّ الآخر كان هناك أيضاً» فضحك الدكتور مارتورا أيضاً.

«قولي لي جورجينا»، قالت السيدة غرون مستغلةً برهةَ الصمت، «أيّ كتاب تقرأين؟ هل هو الرواية الأخيرة لماسّين التي أخبرتني عنها؟ أريدُ قراءتها عندما تنتهين منها. إن لم أطلب ذلك الآن فسوف تعيرينها لأصدقائك على الفور ولن نجدها بعد ذلك. أوه؛ أنا أحبّ ماسّين. إنّه شخصية غريبة. لقد وعدَتني فريدا اليوم...» لكن الزوج قاطعها سائلاً ابنته: «جورجينا، ماذا فعلتِ بعد ذلك؟ هل عرفت اسمه على الأقل؟ المعذرة ماريّا» أضاف أخيراً ملمّحاً لمقاطعته حديثها.

«آمل أنكَ لا ترغب أن أكون قد خضتُ شجاراً في الشارع»، أجابت الفتاة، «كان واحداً من أولئك السذّج. قال إنّه لا يعرف شيئاً وإنه عثر على التمثال في الأسفل جوار النهر».

«وأنتِ واثقة أنّه كان واحداً من كلبينا؟»

«بكل تأكيد. ألا تذكر أنني وفيدري قمنا بتلوين آذانهما بالأخضر؟»

«وذاك الذي رأيته كانت أذناه خضراوين؟» سأل الأب الذي غالباً ما يكون بليد الذهن. 

«كانتا خضراوين فعلاً»، قالت جورجينا، «رغم أنّ اللون قد بهت بعض الشيء».

تدخلت الأم مجدداً: «أصغوا إليّ» وبأدبٍ مبالغٍ فيه سألت: «ما الذي تجدونه مثيراً للاهتمام بهذا الشكل في هذه الكلاب الحجرية؟ لا أدري، المعذرة لقولي ذلك، ستيفانو، لكن يبدو لي أن لا داعٍ لتحويلها إلى قضية كبيرة...»

من الخارج، ويمكن القول من خلف الستارة مباشرةً، وصل ممزوجاً بصوت المطر هديرٌ خافت وممتد. «هل سمعتم؟» قال السيد غرون: «هل سمعتم؟».

سارعت زوجته تشرح: «إنه رعدٌ، أليس كذلك؟ رعد بسيط لا أهمية له. أنت ستيفانو يصيبك التوتر في الأيام الماطرة».

صمت الجميع. لكن ذلك لن يصمد طويلاً إذ يبدو أنّه ثمّة تفكير غريب غير ملائم لقصر العائلة المحترمة تسلّل واستقرّ وسط الصالون الكبير الخافت الإضاءة.

«وجدوه في الأسفل عند النهر»، علّق الأب مجدداً عائداً إلى قصّة الكلبين، «كيف له أن ينتهي عند النهر؟ بالتأكيد لم يطر».

«ولما لا؟» يقول الدكتور مارتورا مازحاً.

«ماذا تقصد دكتور؟» تسأل السيدة ماريّا مرتابةً، فهي في العموم لا تعجبها نكات الصديق العجوز.

«أقول لماذا يستثنى أن يكون التمثال قد طار؟ النهر يعبر هناك في الأسفل ولا يحتاج الأمر غير قفزةٍ لعشرين متراً».

«يا له من عالم. يا له من عالم» مجدداً تحاول ماريّا غرون الدفع بموضوع الكلاب بعيداً كما لو أنه ينطوي على أمور مريبة. «تماثيلنا تبدأ الطيران! وهل تعلمون ماذا تقول الصحيفة هنا؟ "اكتشاف سلالةٍ من الأسماك في مياه جيافا تستطيع الكلام"»

«تقول أيضاً: "ادّخروا الوقت"» أضاف فيدريكو بغباء وكان يمسك صحيفةً أيضاً.

«ماذا؟ ماذا تقول؟» بشيء من الارتياب سأل الأب الذي لم يفهم شيئاً.

«مكتوب هنا: "ادّخروا الوقت!" في الموازنة العامّة لمنتجٍ تجاري يجب إلى جوار الأصول والمصروفات الطارئة احتساب الوقت»

«يمكنني القول الآن إن هذا المطر القليل هو من المصروفات الطارئة!» تدخل مارتورا ممازحاً.

بعد ذلك سُمع صوت الجرس خلف الستارة الضخمة. أحدهم وصل في هذا الليل البهيم. أحد ما اجتاز عائق المطر المنهمر على العالم يضرب الأسطحة ويجرف ضفاف النهر فيجعلها تنزلق منهارةً فيما الأشجار النبيلة تهوي مع جذوعها المقتلعة من الأرض عند الضفاف محدثةً جلبةً عظيمة؛ لتُشاهدَ بعد لحظات على بعد مئة متر وهي تبرز للحظات وتختفي تبتلعها دوّامات النهر التي التهمت حواف الحديقة القديمة مع درابزين الحديد العائد للقرن الثامن عشر، والمقاعد، والكلاب الحجرية.

«من سيكون؟»، سأل العجوز غرون وهو يخلع نظارته الذهبية، «هل يجيئون في مثل هذا الوقت أيضاً؟ أراهن أنّه الجابي. كاتب الرعية يتجوّل منذ بضعة أيام من أجل ضحايا الطوفان! أين هؤلاء الضحايا! إنهم يواصلون جمع المال ولم أرَ حتى واحداً من أولئك الضحايا! كما لو أنّ... من هناك؟ من؟» بصوت خافتٍ وجّه سؤاله للخادم الذي خرج من خلف الستارة.

«إنّه السيد ماسيغر» أعلن الخادم.

لوحة لدينو بوتزاتي

شعر الدكتور مارتورا بالسرور: «أوه... إنه هو. ذلك الصديق اللطيف الذي خضنا وإياه نقاشاً في ذلك اليوم... الشاب يملك أجوبة على استفساراتك».

«تراه ذكياً ساعة تشاء عزيزي مارتورا»، قالت السيدة، «لكن بالنسبة لي لا أكترث كثيراً لمهارة أولئك الذين لا يفعلون شيئاً غير النقاش... أعترفُ أنّ النقاشات لا تعنيني بشيء... ولا أقول إن ماسيغر فتى بارع... وأنتِ جورجينا» أضافت بصوت خافت: «من الجيد أن تذهبي للنوم بعد إلقاء التحية. لقد تأخّر الوقت كما ترين».   

«إن أظهرت اللطف لماسيغر»، ردّت الابنة بجرأة محاولةً أن تبدو نبرتها مازحةً، «إن أظهرت حياله المزيد من اللطف أراهن أنه لن يتأخر، أراهن».

«كفى جورجينا. لا تتلفظي بالهراء. أنت تعلمين... أوه... مساء الخير ماسيغر، لم نتوقع رؤيتك في هذا الوقت، عادةً ما تجيء في وقت أبكر».

عند العتبة وقف الشاب بشعره الأشعث بعض الشيء ناظراً إلى السادة بدهشة. "لكن كيف، ألم يكونوا على علم؟" ثمّ تقدّم بشيء من الحرج: «مساء الخير سيدة ماريّا»، قال دون أن ينال توبيخاً، «مساء الخير سيد غرون. مرحبا جورجينا. مرحبا فيدري. أوه... المعذرة دكتور لكني لم أرك في العتمة».

بدا متحمّساً يجول بينهم ملقياً التحيات كما لو أنّه متلهّف لقول أخبار غاية في الأهمية. وقال أخيراً، حين لم يستفسر أحد: «هل سمعتم بذلك؟ هل سمعتم أن الجسر...».

«أوه، نعم»، تدخلت السيدة غرون بطريقة بدت بمنتهى العفوية، «طقس سيئ أليس كذلك؟» وابتسمت غامزةً الضيف بشيء من التواطؤ.

(يبدو مستحيلاً، فكّر في هذه الأثناء، الإحساس بالفرصة السانحة ليس نقطة قوته في الحقيقة) لكن الأب كان قد نهض عن كرسيه فعلاً: «أخبرني ماسيغر ماذا سمعتم؟ بعض الأخبار ربّما؟».

«انسَ الأخبار»، قالت الزوجة بصرامة، «حقاً لا أفهمك اليوم عزيزي، أنت متوتر للغاية».

كان ماسيغر ذاهلاً: «حقاً»، أقرّ باحثاً عن مخرج، «لا أعرف أية أخبار. فقط ذلك الجسر يمكن رؤيته...».

«إنه لعجبٌ، أتخيّل النهر يفيض!» قالت السيدة ماريّا وهي تحاول مساعدته للخروج من المأزق، «أتخيله مشهداً مثيراً. هل تذكر نياغارا ستيفانو؟ كم سنة مضت على ذلك...» دنا ماسيغر عندئذ من سيدة البيت مستغلاً انشغال جورجينا وفيدري بحديث جانبي: «لكن سيدتي»، وبرقت عيناه، «لكن سيدتي النهر في الأسفل، والبقاء ليس آمناً، ألا تسمعين ال...»

«هل تذكر ستيفانو؟»، واصلت كأنها لم تسمعه، «هل تذكر خوف ذينك الهولنديين؟ ما كانا يرغبان بالاقتراب، قالا إنها مخاطرة عديمة الفائدة يمكن أن تتسبب بالغرق...»

«حسناً»، أجاب زوجها، «يقولون إنّ ذلك يحدث أحياناً، ربّما يشعر الناس بالدوار حين ينحنون كثيراً». بدا أنّه استعاد هدوءه. كان قد عاود ارتداء نظارته وجلس مجدداً جوار المدفأة يمدّ يديه ناحية النار لتدفئتهما.

ها هو الهدير المكتوم والمقلق يعود مجدداً. هذه المرّة يبدو بالفعل قادماً من تحت الأرض، من الأسفل، من أعماق السراديب السحيقة، حتى أنّ السيدة غرون أنصتت رغماً عنها.

«هل سمعتم؟»، صرخ الأب مقطّباً جبينه بعض الشيء، «قولي جورجينا. هل سمعتِ؟»

«أجل سمعت ولا أفهم شيئاً» قالت الفتاة وقد شحب وجهها.

«لكنه الرعد» قالت الأمّ مستشرسةً. «ماذا تريد أن يكون؟ إنّه الرعد. على أية حال ليست أشباحاً».

«لا يحدث الرعد هذا الصخب ماريّا»، أشار زوجها وهو يهز رأسه، «يبدو الأمر هنا في الأسفل. يبدو كذلك».

«أنت تعلم عزيزي أنه مع كلّ عاصفة يبدو المنزل على وشك الانهيار»، أصرّت السيدة، «حين تهب العاصفة تعمّ هذا البيت كلّ أنواع الضوضاء... وأنتم سمعتم رعداً بسيطاً أليس كذلك ماسيغر؟» ختمت دون أن تتيح للضيف الجرأة على إنكار ذلك، فابتسم بدماثةٍ مستسلماً وهو يجيب مراوغاً: «قلت أشباح سيدتي... الليلة فقط، أثناء عبوري الحديقة، انتابني شعور غريب بأنّ ثمّة شخص يتبعني. سمعتُ خطوات خلفي كأنها... خطوات مختلفة تمشي فوق حصى الشارع...».

«وأصوات عظام وحشرجة أليس كذلك؟» أضافت السيدة غرون.

«لا عظام أبداً سيدتي. ببساطة هي خطوات. على الأرجح كانت خطواتي (أضاف) تحدث أصداء غريبة في بعض الأحيان».

«هذه هي، برافو ماسيغر... أو ربّما فئران. هل ترغب عزيزي أن تظنّها فئران؟ طبعاً لن أكون رومانسيةً مثلك، وفي النهاية لا أحد يعلم ما الذي سمعته».

«سيدتي»، حاول الشاب مجدداً بصوت خفيض وهو ينحني نحوها، «لكن ألم تسمعي سيدتي؟ النهر في الأسفل. ألم تسمعي؟».

«لا، لم أسمع شيئاً»، أجابت بصوت متقطّع وخفيض أيضاً، ثمّ بصوت أقوى، «لكن هل تدرك أنّك لستَ مضحكاً بقصصك تلك؟».

عجز الشاب عن الإجابة. حاول فقط أن يضحك وقد بدا له عناد السيدة حماقة فظيعة.  

"لا تريدين التصديق إذاً" فكّر بشيء من الحدّة وانتهى به الأمر أثناء التفكير ليقول لنفسه غريزياً: "لا تقلقكِ الأحداث السيئة أليس كذلك؟ تظنين الحديث عنها سخفاً؟ يرفضها عالمكِ الرفيع؟ أرغب أن أرى أين سيغدو صلفكِ هذا في نهاية الأمر".

«اسمع ستيفانو؛ اسمع»، قالت بحماس في هذه الأثناء متحدثة عبر الصالون، «يدّعي ماسيغر أنه التقى أشباحاً في الحديقة، وهو يتحدث بجدية... هؤلاء الشبّان يبدون لي مثالاً جيداً».

«لا تصدق سيد غرون» وبذل جهده ليضحك وهو يقول خجلاً: «لم أقل ذلك. أنا...» صمتَ مصغياً وقد بدا له وسط الصمت المخيم أنّ صوتاً آخر يجيء مع صوت المطر متنامياً، مخيفاً، موحشاً. كان واقفاً بفمٍ فاغر يغمره ضوء المصباح الأزرق الخافت، ليس خائفاً بل ذاهلاً يرتجف، غريباً ومختلفاً عن كل ما يحيط به من الناس والأشياء فيما جورجينا تحدّق إليه برغبة.

لكن ألا تفهم أيها الشاب ماسيغر؟ ألا تشعر بما يكفي من الأمان في قصر غرون العتيق؟ ألا تكفيك هذه الجدران القديمة الهائلة، هذه السلالم الصلبة، تلك الوجوه الهادئة؟ كيف تجرؤ على إهانة كلّ هذا الوقار بغباء مخاوف الشباب؟

«تبدو لي مثل شبح»، قال صديقه فيدري ملاحظاً، «تبدو مثل رسّام... لكن أما كان بإمكانك تسريح شعرك الليلة؟ أنصحك من أجل مرّة أخرى... تعلم أن أمّي يعنيها ذلك» وانفجر ضاحكاً.

تدخل الأب بصوتٍ شاكٍ: «حسناً، هل نواصل؟ ما يزال لدينا متّسع من الوقت كما تعلم. نلعب برتيةً واحدة وبعدها نذهب للنوم. جورجينا، أحضري علبة الورق من فضلك».

ظهر الخادم في تلك اللحظة باستغراب يعلو وجهه.

«ماذا هناك الآن؟»، سألت السيدة وهي بالكاد تخفي استياءها، «هل وصل شخص آخر؟».

«إنّه أنطونيو. المزارع. هو هناك ويطلب الحديث إلى أحدكم أيها السادة. يقول إنه أمر غاية في الأهمية»

«أنا قادم، أنا قادم»، قال ستيفانو على الفور ونهض على عجل كأنه يخشى أن يتأخر لكن زوجته اعترضت طريقه، «لا، لا، لا. أنت تبقى هنا الآن. تعلم جيداً عواقب البرد عليك بسبب الروماتيزم... ستبقى هنا عزيزي... ويذهب فيدري ليرى».

«لا بدّ أنها واحدة من القصص المعتادة» قال الشاب وهو يتجه ناحية الستارة. ثمّ من البعيد وصلت أصوات مبهجة.

اللوحة لدينو بوتزاتي

«ستلعبون هنا؟»، سألت السيدة في تلك الأثناء، «جورجينا، أزيحي تلك الزهرية لو سمحتِ ثمّ اذهبي للنوم عزيزتي، لقد تأخر الوقت فعلاً. وحضرتك دكتور مارتورا ماذا تفعل؟ هل أنت نائم؟».

«أوه هل غفوت؟ أجل ربما قليلاً»، يضحك، «إنها حرارة المدفأة وأعراض الشيخوخة».

«ماما»، تنادي الفتاة من الزاوية، «ماما، لم أعثر على علبة الورق. كانت هنا في الصندوق يوم أمس».

«افتحي عينيك عزيزتي. ألا ترينها فوق الرف؟ أشتهي أن تعثري يوماً على أي شيء».

رتّب ماسيغر الكراسي الأربعة وبدأ بخلط الأوراق بينما فيدريكو يعود.

«ماذا يريد أنطونيو؟»

«لا شيء»، أجاب الابن بشيء من البهجة، «مخاوف المزارعين المعتادة. يقولون إنّ النهر بات خطراً والبيت أيضاً مهدد. تخيّل؛ يريدونني أن أذهب لأتأكد، تخيل ذلك؛ في هذا الطقس. جميعهم هناك الآن يصلّون فيما الأجراس تقرع. هل تسمع؟».

«فيدري»، اقترح ماسيغر، «لنذهب معاً ونرى، ما رأيك؟ خمس دقائق فقط. هل توافق؟».

«واللعبة ماسيغر؟»، قالت السيدة، «هل ترغب بترك الدكتور مارتورا مترنّحاً لتذهب وتبتلّ كالصيصان؟ ثمّ...».

هكذا؛ بدأ الأربعة اللعبة فيما ذهبت جورجينا للنوم وأخذت الأمّ قطعة قماش للتطريز وجلست في ركنها.

بينما الأربعة يلعبون راحت الأصوات التي سُمعت سابقاً تتكرّر مراراً. بدت كما لو أنّ كتلةً هائلة تسقط في حفرة مليئة بالطين اللزج مخلفةً وقعاً كئيباً في أحشاء الأرض. وفي كلّ مرّة تترك شعوراً بالألم. تباطأت الأيدي فوق أوراق اللعب. تعلّقت الأنفاس. لكن تلاشى كل شيء بعد ذلك.

لم يجرؤ أحد (إن جاز القول) على الحديث عن ذلك. فقط، في لحظة محدّدة قال الدكتور مارتورا: «لا بدّ أنه المجرور في الأسفل. هناك مجاري قديمة تصبّ في النهر، وربّما فاض بعضها...». الآخرون لم ينبسوا بكلمة.

من الأفضل الآن مراقبة نظرات السيد غرون، الرجل النبيل، موجّهة مباشرةً نحو المروحة الصغيرة من البطاقات في يده اليسرى لكنها تتجاوز حدود البطاقات ممتدةً إلى رأس وكتفي مارتورا الجالس مواجهته لتصل بعد ذلك نهاية الصالون حيث تختفي الأرضية الصقيلة تحت حواف الستارة. الآن لم تعد نظرات السيد غرون مسمّرةً على البطاقات، ولا على وجه الصديق المحترم، بل إنها مصوبة نحو العمق، إلى كعب الستارة، وقد اتسعت عيناه وومضتا ببريق غريب. ليخرج أخيراً من فم العجوز صوت مبهم يملؤه الذهول قائلاً ببساطة: «انظر» لم يكن يخاطب ابنه، ولا الدكتور، ولا ماسيغر، فقط قال: «انظر» بطريقة تثير الذعر.

ما إن قال ذلك حتى التفت الجميع بمن فيهم قرينته الجالسة في ركنها بكبرياء عظيم منهمكة بالتطريز. تحت حافّة الستارة الداكنة السفلية رأوا شيئاً أسود عديم الشكل يزحف ببطء.

«ستيفانو، بحق الرب لماذا تصدر ذلك الصوت؟»، صرخت السيدة غرون وهي تنهض متجهة نحو الستارة، «ألا ترى أنها مياه؟».

اللاعبون الأربعة لم ينهض أحد منهم. كانت بالفعل مياهاً تسلّلت أخيراً إلى الفيلّا عبر الصدوع والشقوق، ومثل ثعبانٍ يزحف هنا وهناك عبرت الممرات قبل الظهور في الصالة فيجعلها الضوء الشحيح تبدو سوداء.

بغض النظر عمّا سببته من خشية غير أنه أمر مضحك. لكن أليس ثمّة أمر آخر خلف ذلك اللسان المائي المتسرّب من المغسلة؟ هل حقاً هذا هو العيب كلّه؟ أليس هناك خرخرة أنهار أسفل الجدران، ومستنقعات بين رفوف المكتبة العالية؟ وفي قبو القاعة المجاورة ألا تقطر قطرات خمولة.

(قرقعة الطبق الفضي الذي قدّمه الأمير هدية زفاف قبل سنوات بعيدة جداً؟)

صرخ الشاب فيدريكو: «هؤلاء الحمقى لقد تركوا احدى النوافذ مفتوحة».

«اركض. أسرع وأقفلها؛ هيا» قال أبوه، لكن السيدة اعترضت قائلة: «لا تفكروا بذلك حتى. ابقوا هنا. سيتكفل أحدهم بالمهمة» وشدّت حبل الجرس بشيء من العصبية ليسمع صوت رنينه بعيداً. تتالت في الوقت نفسه الجلجلة الغامضة مع صوت تساقط المطر الكئيب مثيرةً الإزعاج حتى في الزوايا القصية من القصر.

كالح الوجه كان العجوز غرون يحدق باللسان المائي فوق الأرض؛ ببطء راحت الحواف تنتفخ وتفيض بضع سنتيمترات. تتوقف، ثمّ تتضخم من جديد عند الأطراف. ومجدداً تتقدم خطوةً أخرى للأمام.

ماسيغر كان يخلط الأوراق لإخفاء مشاعره وهو يشهد أحداثاً غير معتادة.

الدكتور مارتورا يهزّ رأسه ببطء بإيماءةٍ تعني: ما هذه الأوقات؟ ما هذه الأوقات؟ ما عاد بالإمكان الوثوق بالخدم! أو قد تعني بشيء من اللامبلاة: لا يمكن فعل شيء الآن، لقد لاحظتم ذلك بعد فوات الأوان.

انتظروا بضع لحظات لكن ليس ثمّة ما يوحي بوجود حياة في الغرف الأخرى. استجمع ماسيغر شجاعته: «سيدتي»، قال، «لقد قلتُ إن...»، «يا للسماء، هكذا أنت دوماً ماسيغر»، أجابت ماريّا غرون دون أن تتركه يكمل، «لأجل بعض الماء على الأرض! سيصل هكتور الآن ويجففها. تلك النوافذ الملعونة تسمح بتسرب الماء دوماً. يجب إصلاح المصاريع».

لكن الخادم المدعو هكتور لم يأتِ. ولم يأتِ غيره من الخدم أيضاً. صار الليل عدوانياً ثقيلاً بينما الجلبة العصية على التفسير تصير قعقعةً شبه متواصلة أشبه ببراميل تتدحرج عند أساسات البيت. تلاشى خلف الأصوات الجديدة، وما عاد يسمع، هدير المطر في الخارج.

«سيدتي»، صرخ ماسيغر فجأة قافزاً على قدميه بمنتهى العزم، «سيدتي، أين ذهبت جورجينا؟ دعيني أذهب لمناداتها».

«ماذا هناك أيضاً ماسيغر؟»، قالت ماريّا غرون والذهول ما يزال بادياً على وجهها، «جميعكم متوترون الليلة بطريقة رهيبة. ماذا تريد من جورجينا؟ دعني راضيةً بتركها نائمة».

«نائمة!»، كرّر الشاب بشيء من الهزء، «نائمة! ها هي، ها هي...»

من الممر الذي تحجبه الستارة مثل كهفٍ جليدي اندفعت نحو الصالون عاصفةٌ من الريح. راحت الستارة تنتفخ مثل شراع، تلتف حوافها فتسمح لأنوار الصالون بالعبور خلالها لتنعكس على المياه المنتشرة على الأرض.

«فيدري؛ كرمى لله، أسرع وأغلقها»، توسّل الأب، «كرمى لله نادِ على الخدم، نادهم».

لكن الشاب بدا مستمتعاً بما هو خارج عن المألوف، ركض نحو الممر المظلم صارخاً: «هكتور! هكتور! بيرتو! بيرتو! صوفيا!» نادى جميع أفراد الخدم لكن صراخه كان يتبدّد في الدهاليز المهجورة دون صدى.

«بابا»، سمع صوت فيدريكو مجدداً، «لا ضوء هنا. لا أستطيع الرؤية... يا إلهي، ما الذي يحدث!».

كان الجميع في الصالون متسمّرين مذعورين من ندائه المفاجئ. الفيلّا برمتها بدت الآن، لسبب مجهول، غارقةً بالمياه والريح تعصف فيها صعوداً وهبوطاً كأنما الجدران أزيلت عن آخرها. المصابيح تتأرجح، الأوراق والصحف تتبعثر، الزهور تتساقط.

عاد فيدريكو شاحباً، أبيض كالثلج وهو يرتجف بعض الشيء. «يا إلهي»، كان يكرر تلقائياً، «يا إلهي، ما الذي يحدث!»

هل يجب الشرح أنّ النهر في الأسفل قد فاض وحفر مجرىً وحشياً لا يعرف الرحمة؟ وأنّ الجدران عند ذلك الجانب توشك على الانهيار؟ وأنّ الخدم جميعهم قد اختفوا، وغالباً لن يكون هناك ضوء بعد قليل؟ وجه فيدريكو الشاحب وحديثه اللاهث لن يكونا كافيين لشرح كل شيء (وهو عادةً أنيق وواثق بنفسه). من شقوق الأرض العميقة كان الهدير يتصاعد.

«لنذهب بسرعة، هيا بنا، سيارتي هناك في الخارج. سيكون الأمر جنوناً» قال الدكتور مارتورا، الوحيد من بين الجميع الذي حافظ على شيء من الهدوء. ثمّ ظهرت جورجينا رفقة ماسيغر وهي تلتحف معطفاً ثقيلاً وتنتحب برصانة وبمنتهى الحشمة دون أن يسمع صوتها. بدأ الأب ينبش الأدراج لجمع المدخرات.

«أوه، لا، لا»، صاحت أخيراً السيدة ماريّا غاضبةً، «لا أريد». كان فمها يرتجف وقد امتقع وجهها منهاراً تقريباً موشكةً على الاستسلام. ثمّ ابتسمت بعد جهد كبير، كان قناعها الاجتماعي سليماً غير أنه فقد تلك الرفعة الساحرة.

«لكني سأذكرها سيدتي»، قال ماسيغر برباطة جأش كرهها في الحقيقة، «دوماً سأذكر فيلّتكم هذه، كم كانت جميلة في الليالي المقمرة».

«بسرعة سيدتي، معطف» ألحّ مارتورا ملتفتاً إلى سيدة البيت. «وأنت أيضاً ستيفانو احمل معك شيئاً تتدثر به. لنذهب قبل أن نفقد الضوء».

لم يكن السيد غرون يشعر بشيء من الخوف، يمكن القول إنه كان ذاهلاً يقبض على حقيبة جلديّة تضمّ المدخرات. فيدريكو يدور في الصالون الذي يغرق بالمياه وقد فقد السيطرة على نفسه، «إنها النهاية. إنها النهاية»، بقي يردد. وبدأت الأنوار الكهربائية تتلاشى.

عاد الرعد في هذه اللحظة أكثر شؤماً من السابق وبدا صوته أقرب. زئير طويل مجلجل. طوقٌ جليديّ أحكم خناقه على قلوب آل غرون.

«أوه، لا، لا»، عاودت السيدة الصراخ، «لا أريد، لا أريد». إنها شاحبة كالأموات وقد تغضّن وجهها بشكل مخيف. بخطوات قلقة راحت تتقدم نحو الستارة المهتزة وهي تومئ برأسها رافضةً، وكأنها بذلك ستمنع حدوث شيء، وأنّ الماء لن يجرؤ على المرور لأنها قادمة بنفسها.  

رأوها تسحب حواف الستارة بشيء من الغضب وتختفي في الظلام كما لو أنها ذاهبة لتطرد حشداً من الحثالات عجز الخدم عن طردهم. هل افترضت أنها بازدرائها الارستقراطي تواجه الخراب وترهب الهاوية؟

خلف الستارة اختفت، ورغم زمجرة الرعد المتزايدة بدا كأن الصمت يحلّ من جديد، إلى أن قال ماسيغر: «هناك أحد ما يقرع الباب».

«أحدهم يقرع الباب؟»، سأل مارتورا، «من سيكون؟»

«لا أحد»، أجاب ماسيغر، «بالطبع ليس هناك أحد الآن. ومع ذلك فإنهم يقرعون الباب وهذا جيد، ربّما هو رسول، أو شبح، أو روح قادمة للتحذير. إنهم يلتفتون بشيء من الاحترام أحياناً إلى بيت السادة هذا، أولئك الموجودون في العالم الآخر».

دينو بوتزاتي

كاتب وصحافي ومسرحي ورسام إيطالي (1906- 1972). إضافةً إلى عشرات القصص القصيرة والسيناريوهات ذات العوالم الخاصّة، كرسته رواية صحراء التتار (1940)، ورواية حب (1963)، كواحد من أهم الكتاب الإيطاليين في القرن العشرين.

×