19 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

الحرب

لويجي بيراندلو

25 كانون الثاني 2023

لويجي بيراندلو (1867 - 1936)

صدرت العام 1919. ترجمة المراسل.

 

كان على المسافرين القادمين من روما في قطار الليل السريع الانتظار في محطة فابريانو حتى بزوغ الفجر، قبل أن يواصلوا رحلتهم في قطار صغير بطيء الى إقليم ماركي.
فجراً، اندفعت، في ثياب الحداد، سيّدة هدّها الحزن وبالكاد تقدر على الوقوف، كأنّما حُمِلت حملاً إلى مقصورة قذرة في إحدى عربات الدرجة الثانية يشغلها خمسة مسافرين.
ضوء الصباح الباكر، قذارة المقصورة ورائحتها الكريهة، المرأة الشبيهة بصرّة عديمة الشكل، مع أنين ولهاث يصدران من ورائها، كل ذلك جعل الأمر أشبه بكابوس بالنسبة إلى المسافرين الخمسة الذين لم يغمض لهم جفن تلك الليلة.
مصدر اللهاث والأنين كان زوجها الذي دلف خلفها أخيراً. رجل نحيل، مرهق، وشاحب كجثة، لكن التماعة عينيه الصغيرتين خلخلت بحيويتها امتقاع لونه.
لم يمنعه أسفه لحال زوجته من الحرص على الشكليات رغم الإحراج الشديد الذي شعر به. بدا واضحاً أن الجهد الذي بذله جعله حانقاً بعض الشيء، وقلقاً، ربما، رغم أنه لم يمنح الركاب الخمسة الآخرين دليلاً كافياً على قوته وقدرته على المناورة لدفع تلك الصرّة إلى داخل المقصورة.
بعد أن اتخذ لنفسه مقعداً، وبعدما أطال عبارات الاعتذار والشكر لرفاق السفر على إفساحهم المجال لجلوس المرأة التعسة، حان الآن الوقت لإظهار اهتمامه بها أيضاً. التفت إلى المرأة محاولاً أن ينزل ياقة معطفها التي غطّت أنفها، وسألها:
-
هل أنت بخير عزيزتي؟
لم تجبه، بل أعادت، بغضب، رفع الياقة أعلى مما كانت عليه لتغطي وجهها كاملاً.
علت وجهه ابتسامة مضطربة وهمهم: يا له من عالم.
شعر بواجب أن يشرح لرفاقه المسافرين حال المرأة الجديرة بالتفهّم، بعد ذهاب ابنها الوحيد إلى الحرب. الشاب ذو العشرين عاماً، والذي أفنى كلاهما حياتهما لأجله، حتى أنهما في العام الماضي تركا منزلهما في سالمونا للحاق به في روما،  لقد استدعي إلى الجيش مع اندلاع الحرب، وخضع لدورة عسكرية سريعة تخرج منها بعد ثلاثة أشهر ملازماً ثانياً.  وعُيّن في فوج المشاة الثاني عشر، لواء كاسال، والتحق بالقاعدة العسكرية في ماشيراتا. هناك، أكد لهما أنه سيعمل في تدريب المجندين ولن يُرسل إلى الجبهة قبل شهر ونصف على الأقل. لكن تقرر إرساله إلى جبهة القتال بعد ثلاثة أيام فقط. أمس وصلتهما برقية منه يعلمهما فيها بأمر مغادرته فجأة. وها هما في الطريق لوداعه.
كانت الأم تتلوى تحت المعطف الكبير وترتجف، حتى أنها زمجرت مرات عدة كوحش بري، ساخطة على الشروحات الطويلة التي يستفيض بها زوجها، الذي بدا غير مدركٍ أن هذا شرحاً كهذا قد يثير سخط المسافرين الخمسة أكثر مما يفلح في إثارة تعاطفهم. فبعض هؤلاء، وربما كلهم، يعانون من محن مشابهة، وربما لدى بعضهم أكثر من ولد يشارك في الحرب رغم انهم، بخلافها، لم يبد عليهم كل هذا الحزن والجزع.
وفي الواقع، فقد قوبلت تبريراته ببرود.
قال أحدهم:
ـ يجب أن تحمد الله أن ابنك في طريقه إلى الجبهة الآن فقط. ابني هناك منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب. وقد عاد مرتين جريحاً. لحسن الحظ في المرتين كانت الاصابتان طفيفتين. إحداهما في يده والثانية في ساقه، وبعد كل إصابة أعيد إرساله إلى الجبهة مجدداً.
وقال آخر:
-
لدي هناك ولدان وثلاثة أبناء إخوة.
قال الزوج:
-
نعم... ولكنه ابننا الوحيد...
قاطعه الرجل بفظاظة:
- هذا خطأ. لا تقل ذلك. قد تفسد ابنك عندما يكون وحيداً، لكن هذا لا يعني أنك تحبه أكثر. الأمر سيان لو كان لك أبناء آخرون. الحب الذي يغدقه الأب على أبنائه ليس رغيفاً من الخبز يقسّمه إلى قطع يوزعها عليهم بالتساوي. الأب يمنح حبه كله لكل ولدٍ من أبنائه دون تمييز. وإن كنت أعاني الآن لغياب ولديّ الاثنين فأنا لا أعاني نصف معاناة بسبب كل منهما، بل أعاني معاناة مضاعفة.
بخجل أجاب الزوج وقد علت وجهه ابتسامة إحراج:
-
هذا صحيح... صحيح... ولكن - بما أننا نتحدث في الأمر، وطبعاً نأمل جميعاً ألا يحدث ذلك لك - لنفترض أن لأب ولدين في الجبهة. وإذا فقد واحداً منهما- لا سمح الله - سيبقى لديه واحد يعزيه...
أجاب الرجل بحدّة ووجهه يزداد عبوساً:
ـ نعم يبقى له ولد يعزيه، ولكن أنت... حسناً، ليس أنت، بل في حال الأب الذي له ابن وحيد، إن مات الابن يستطيع الأب أن يضع حداً لحياته فينهي بذلك معاناته. بينما في حالتي، عليّ مواصلة العيش من أجل الولد المتبقّي. ألا ترى كيف أن وضعي يمكن أن يكون أسوأ من وضعك؟
«ما هذا الهراء» ... قاطعهما مسافر بدين أحمر الوجه، ذو عينين منتفختين يكاد الدم يخرج منهما وهو يجيلهما في أرجاء المقصورة. كان يلهث. وبدت عيناه الجاحظتان توشكان على الخروج من محجريهما، وهو يكظم داخله عنفاً لم يعد جسده قادراً على احتوائه. وضع كفّه الضخمة أمام فمه ليخفي الفراغ الذي خلّفه فقدان سنين أماميين، وكأنه قد اكتشف للتوّ عدم وجودهما، لكنه ما لبث أن نسي الأمر وهو يقول ساخطاً:
-
هل ننجب أبناءنا من أجل منفعتنا؟
انحنى المسافرون الآخرون إلى الأمام ونظروا اليه بأسى. أطلق الرجل، الذي ردّ على الزوج أولاً قائلاً إن ابنه سافر الى الجبهة منذ اليوم الأول للحرب، تنهيدةً، وقال:
-
حسناً، لا، ننجبهم من أجل الوطن...
أجاب المسافر البدين:
حسناً أيها السيد. إن كنت تقولها كذلك - «من أجل الوطن» - فإن الأمر يبدو كما لو أنك تشكو!
«
يا بني، لم أنجبك من أجلي، بل من أجل الوطن.» ...   
هراء! هل تفكّر فعلاً بالوطن عندما تُرزق بولد؟ كلام فارغ! لا يولد الأبناء لأننا نريدهم ولكن لأنهم يجب أن يولدوا. هم يأخذون الحياة معهم، ليس حياتهم فقط، بل حياتنا أيضاً. هذه هي الحقيقة، نحن هنا من أجلهم، وليسوا هنا من أجلنا. عندما يبلغون العشرين نجد أنهم يشبهوننا حين كنا في مثل سنهم، نحن أيضاً كا ن لنا آباء وأمهات، لكن كانت هناك أيضاً أشياء أخرى كثيرة: مباهج وصديقات وصداقات وحنين وسجائر، وكان الوطن أيضاً حين كنا في العشرين ولا أبناء لنا. الوطن الذي لو دعانا آنذاك هل كان ليعني لنا أكثر من آبائنا وأمهاتنا؟ الآن، نحن في الخمسين أو الستين يا سيدي العزيز. الوطن لا يزال هنا، ولكن في داخلنا أيضاً، بالطبع، حب أقوى لأبنائنا. هل بيننا هنا من لا يتمنى أن يحلّ مكان ابنه في الجبهة لو استطاع ذلك؟ كلنا سيفعل ذلك بالتأكيد. ألا نريد أن نتفهّم ما يشعر به أبناؤنا وهم في العشرين؟ أنا أتحدث هنا عن الأولاد الطيبين. من الطبيعي في سنهم أن يكون حبهم لوطنهم أعظم من حبهم لنا. من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك لأننا، بالنسبة إليهم، نحن أيضاً نصير أبناء، أبناء متقدمون في السن وعاجزون عن الحركة وعليهم البقاء في البيت.
إذا كان الوطن حاجة طبيعية كالخبز، فكيلا نموت جوعاً يجب أن يمضي أحد للدفاع عنه حين يستدعي الأمر. لذا يذهب أولادنا في سن العشرين، لأنهم يجب أن يفعلوا، وهم لا يحتاجون الدموع لأنهم إن ماتوا يموتون سعداء (أنا أتحدث طبعاً عن الأولاد الطيبين). إذا مات المرء شاباً وسعيداً دون أن يكون قد رأى بشاعة الحياة ومشكلاتها والمرارات والأوهام التي تختزنها، فما الذي نريده أكثر من ذلك؟ يجب أن نضحك لا أن نبكي، أو أن نبكي كما أفعل أنا. أبكي بسعادة لأن رسالةً وصلتني من ابني قبل موته يقول فيها إنه يموت راضياً لأنه ينهي حياته بأفضل طريقة كان له أن يتمناها، ولهذا عليّ ألا ارتدي ثياب الحداد. وكما ترون، لم أفعل.
قال الرجل البدين ذلك فيما هو يجذب سترته الملونة إثباتاً لصدق كلامه. ارتجفت شفتاه الزرقاوان فوق سنيه المفقودين، واغرورقت عيناه بالدموع. في النهاية، أطلق ضحكة حادّة بدا معها كما لو أنه ينتحب.
«
صحيح... صحيح»، قال الجميع.
في الأشهر الثلاثة الماضية، حاولت المرأة، المتدثرة بمعطفها، العثور فيما كان يقوله زوجها والآخرون على كلمة واحدة تخفف حزنها العميق، وتبرّر لها إذعانها لفكرة أن ترسل ابنها الى الموت، أو حتى الى مجرّد خطر يهدّد حياته. لكنها لم تجد كلمة عزاء واحدة في كل الكلمات التي قيلت لها. لذلك اعتقدت أن الآخرين عندما يتكلمون اليها عن التسليم بالقضاء، إنما يفعلون ذلك لعدم قدرتهم على مشاركتها مشاعرها. غسر أنّ كلمات هذا المسافر أذهلتها. فجأة، أدركت خطأ تقديرها بأن الآخرين لم يشاركوها مشاعرها، بل على العكس، كانت هي التي لم تشعر بما يشعر به الآباء والأمهات الراغبون في التكيّف، ليس فقط مع ذهاب أبنائهم إلى الحرب، بل أيضاً مع احتمال موتهم.
رفعت رأسها وسحبت نفسها من زاوية المقصورة، وأصاخت السمع إلى التفاصيل التي راح الرجل يرويها لرفاق السفر عن موت ابنه. بينما أولئك يبدون إعجابهم بالرجل العجوز، ويهنئونه على شجاعته في ذكر هذه التفاصيل. كانت مذهولة، أحست بأنها دخلت عالماً كان حتى اللحظة مجهولاً بالنسبة إليها، وتراه للمرة الأولى. لا بدّ أنّ الحيرة التي علت وجوه الآخرين قد علت وجهها. فجأة، كما لو أنها لم تسمع شيئاً مما قيل أو تفهمه، التفتت إلى الرجل وسألته:
ـ إذاً هل مات ابنك حقاً؟ 
التفت الرجل العجوز ونظر إليها مثبتاً عينيه المخيفتين، بأقصى ما يستطيع أن يفتحهما، في وجهها. نظر اليها طويلاً. كأنه للمرة الأولى يُواجه بهذا السؤال الذي لا معنى له، وغير اللائق، وفجأةً، بدا كأنه أدرك أخيراً أن ابنه مات فعلاً... ذهب إلى الأبد. تغضّن وجهه وبدا عليه الاضطراب، سريعاً أخرج منديلاً من جيبه وراح، وسط ذهول بقية المسافرين، ينتحب نحيباً مريراً وموجعاً.

لويجي بيراندلو

واحد من أبرز الأدباء الإيطاليين في القرن العشرين. حاز جائزة نوبل للآداب لعام 1934.

×