10 كانون الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

غنائيات شعبيّة لنسوة الجنوب المصري: نصوص الفَّرْح

رضوان آدم

29 تموز 2024

مشهد غنائي من فرح صعيدي بريشة الفنان التشكيلي المصري البارز طه القرني.

نُشِر في نسخة المراسل الأولى
في خريف عام 2018.

 

الطابع المحافظ (المُتَزَمِّت) الذي فرضته الجغرافيا ومَرَرَه تاريخ اجتماعي طويل في الجنوب المصري، يظهر في أبهى قسوته عندما يصل إلى محطة المرأة. فهو بدرجة سمِجة أخفى دورها في الشارع والميدان، لكن، ومع كل نقائصه، أفاد عناصر الثقافة الشعبية، التي ظلّت المرأة الصعيدية، وفيّة لها، وحافظة لها أكثر بكثير من غالبية الرجال الذين هجروا القرى والنجوع والمدن بحثًا عن لقمة العيش، وتأثروا بثقافات بلاد الغربة، وتركوا، من دون قصد، نسائهم وأطفالهم في البيوت التي تتفرّج على الجبال أو تلك التي ترقد على باط نهر النيل. فمن يحفظ الأساطير والمعتقدات والغنائيات والحكايات الشعبية غير المرأة: الجدّة والأم والزوجة؟. من يورّث للابن والابنة والأحفاد فولكلور الوادي الفسيح/ بلاد طيبة؟.

  فيما يخص الفولكلور، ليست هناك وساطة في تقليد شخص ما دورًا اجتماعيا يتعلق بعادة أو معتقد أو فن قولي (نص أدبي أو أغنية شعبيّة)، هناك قصديّة فقط في الوظيفة: مقاومة الواقع بحتمياته الثلاث: الميتافيزيقية والفيزيقي والطبقي. فكما أن للفنون الشعبية وظائف من بينها التسليّة والترفيه، فإنها لا تتخلى عن مقاومة ما هو مفروض (القهر/الدين الرسمي/ العادات والتقاليد المستوردة).

المتخصصون في الفنون الشعبية، يُدركون وهم يجمعون من ميادين البحث، أن نصوص الفّرح تتميز بأنها أكثر وفرة من نصوص الحزن في الصعيد، وهذا قد يعود إلى أن دَّوْرةُ الحياة أكثرُ انحيازًا إلى قلب صفحة الألم، وهي حقيقة أنثروبولجية عن خصال المصريين عمومًا الذين يميلون إلى الابتهاج والنكتة وحبّ الحياة، على أنّ هذه الوفرة المقصودة سابقًا، كريمة مع الصعايدة أكثر من أي إقليم مصري آخر، والسبب قد يكون وجيها: لحظات الشقاء كثيفة والسعادة عزيزة في جنوب مصري بارَزَه التهميش ورماه فوق ضفاف نيل يتفرّج على إثنوغرافيا (مشاهد بصريّة) تبدو وكأنها حتمية دراميّة. قد يختلف البعض مع هذا الاستنتاج، وهذا من حقه، لكن ليس من حق هذا البعض أن ينفي حقيقة خبيئة في صدور الصعايدة كبُركان عصبي.

هل هذا سبب رئيس في أن يكون إيقاع النصوص الأدبية ( الأشعار) المرتبطة بمناسبات الفَّرح: الميلاد والسبوع والخطبة الزواج، أسرع؟. هل هي الرغبة في التنفيس التي تُظهِر من تؤدين هذه النصوص وكأنهن يركبنَ بساط الريح؟. الإجابات في موضوعات الفنون الشعبية ليست بـ"نعم" أو "لا"، فالإجابة الوحيدة هي المعايشة والملاحظة والملاحظة بالمشاركة والمقابلة المتعمقة مع النسوة في مناسبة الفَّرْح أيا كان نوعها وموقعها ومداها الزمني.

عندما تؤدي المرأة نصوص الفَّرْح في صعيد مصر، فإنها تقوم بوظائف محددة (التربية والنصح والإرشاد للعروس من الألف إلى العلاقات الخاصة على الفراش)، وهي تقدم  نصائح لكل أطراف المناسبة البهيجة: أم العريس وكيف تتعامل مع زوجة ابنها كي تستمر الحياة، ويحصل المُراد:"ويخلفوا صبيان وبنات"، العروس مثلا وكيف تجهز جسدها وتهذّب سلوكها لأجل حياة الزوجية.

النصُّ الأدائي المرتبط بالنسوة في أوقات الحزن، يستدعي عناصر فولكلورية أقلّ من تلك التي تستدعيها نصوص الفَّرْح، حيث نجد استخداما واسعا للرقص الشعبي، والأفكار الاعتقاية، والزي المحلي الخاص، علاوة على خبرات متوارثة في تجهيز جسد كل من يشاركن في الاحتفال. وعلى ذكر الجسد، تستخدم المؤديات عبارات من البيئة الجنوبية (الشعر الطويل تشبيها بطول عيدان القصب التي تنتشر في جنوب مصر)، ووصف الصّدر ب(فاكهة الرمّان)، وعود العروس الذي يُشبه عود الخيزران.

"أم العريس ولا حد لاقيها

دايرة البلد تدعي مَدَاعيها

أم العريس ولا حد واجدها

دايرة البلد تدعي حبايبها"

هذا نص أدبي - مجهول اسم مؤلفه- يقدّم نفسَه لأغنية شعبية تؤديها نسوة في ليلة الحنّاء حيث تقوم أم العريس بدعوة النساء من الأهل والجيران لليلة حنّاء ابنها، أما أم العروس فتقيم ليلة خاصة لابنتها في منزلها وتدعو إليها النسوة والفتيات العازبات والمتزوجات، وتُضاء الشموع، وعندما يدخلن بيت العروس، يُستقبلن بالغناء والرقص، وضربات الدفّ السريعة، وتتبادل الفتيات الرقص في دائرة واسعة في صّحن البيت وهن يشربن مشروب "الشّربات"والمياه الغازية، حتى يتعبن، وعندئذ تدعو أم العروس النسوة الكبيرات لمائدة الطعام الشهية أولا، ثم تدخل الفتيات مع بعضهن البعض. كل هذا يجري والدّاية تمارس عملها في تجهيز جسد العروس (رسومات الحنّاء) ثم تنصرف بعض الفتيات والصبية بما تبقى من الحنّة إلى بيت العريس. وغالبًا ما تختار الدّاية أو أم العروس فتاة عزباء من أم وأب على قيد الحياة لتضع الحنّاء في يد العروس قبل أن تتولى الدّاية مسألة الرسومات ورموزها.

نسوة يرقصن في بيت ريفي ابتهاجا بليلة الدُّخلة

 

في الطريق إلى بيت العريس تؤدي سيدة عجوز، تمشي برفقة الفتيات والصبية، وتصاحبهن إيقاعات طبول، هذا النص الأدبي:

السيدة: رشّوا الشارع ميّة

المجموعة: رشّوا الشارع ميّة

السيدة: عروسته الغالية جاية

المجموعة: رشّوا الشارع ميّة

السيدة: رشّوا الشارع كاكولا

المجموعة: رشّوا الشارع كاكولا

السيدة: عروسة الغالي منقولة

المجموعة: رشّوا الشارع كاكولا

في هذا النص الذي يحتضنه محيط بيت العريس، تظهر مجموعة من العادات والمعتقدات الشعبية المرتبطة بالبيئة الجنوبية في مصر، فمنذ زمن بعيد كانت المياه الغازية ( الكوكاكولا والبيبسي كمثال) يُنظر إليها كشيء أجنبي عجيب وغريب عن المشروبات الشعبيّة المعروفة (الشاي والقهوة) وكان - ولا يزال هذا الأمر قائمًا في بعض قرى الصعيد المُهمشة- يُنظر إلى زجاجة المياه الغازية على أنها مصدر للتفاخر والتقدير للشخص الذي سوف يحالفه الحظ الكبير ويشربها، فما بالك والكوكاكولا سوف تُرشّ على الأرض لأجل العروس الغالية التي تتجهز للقدوم، بحيث تنتقل من بيت أبيها إلى بيت زوجها.

وكي يكون قدوم العروس إلى بيت العريس ممهدًا من غير عَفَرَة أو أتربة في البيئة الريفية المذكورة، فإن رشّ المياه فوق الأرض هو جزء من العادات المتوارثة في قرى الصعيد، وهو جزء من معتقد متوارث يرى أن رشّ الماء فوق الأرض هو مفتاح للرزق والبهجة، ومغلاق لكل أبواب الشؤم.
 

خدناها خدناها .. خدناها خدناها

قولوا لأبوها يتعشي .. خدناها من ع الفرشة

صبوا لأبوها يغسل أيديه .. خدناها وضحكنا عليه!

خدناها خدناها .. خدناها بالسيف الماضي  

وأبوها مكنش راضي.. وعلشانها بعنا الأراضي

الحلوه اللي كسبناها ..

خدناها بالملايين .. وأهلها ما كانوش راضيين

وعلشانها بعنا الفدادين

الحلوه اللي كسبناها

خدناها خدناها

خدناها بالسيف والقوة .. وأبوها راجل فتوة

الحلوه اللي كسبناها

 

هذا النص يعرفه الصبية والأطفال في قرى الصعيد، ويُقال عند اتمام مراسم كتب الكتاب، أو خلال موكب قدوم العروس إلى بيت زوجها، وعباراته ليس المقصود منها المعنى المباشر: الإمعان في إغاظة والد العروس، لكن إظهار أن العروس (وهي الجائزة الكبرى) لها مكانة كبيرة في نفوس أهل العريس لدرجة أن الأمر استدعى المبارزة بالسيف وإنفاق الملايين وبيع الأراضي، وهي أفعال لا صلة لها بالواقع في أغلب الأحيان، حيث تؤدي النسوة هذه الأغنية لعريس ينام هو وعروسه على حصير من خوص النخيل.!  


عندما تحين ليلة الدُّخلة، تتزاحم النصوص الأدبية (الأشعار) لأجل مجاملة العريس والعروس. تدخل الآلات الموسيقية الشعبية على الخط (الدفّ والطار والمزمار). وفي حين يرقص أصدقاء العريس وأهل قرية ما رقصاتهم الشعبية في الخارج، تتوارى النساء المؤديات ومعهن الفتيات في بيت العروس والعريس على التوالي. تغني المؤديات بصحبة النساء الكبيرات أولا على إيقاع الطبول، وتشاركهن أم العريس الغناء والرقص:

 

المؤدية: يا حلاوتك يا استفندي

يا ابن عم البرتكان

عروستنا في بيت أبوها

وعريسها يقول هاتوها

وحشتني من زمان

المجموعة: يا حلاوتك يا استفندي

يا ابن عم البرتكان

 


 

Dr.Mostafa Saad · يا حلاوتك يا استفندي يا ابن عم البرتقال
نُسخة بلهجة قاهرية لنفس الأغنية الشعبية التي تؤدى باللهجة الصعيدية

 

تقدّم هذه الأغنية الشعبية وظيفة التسلية وتتغزّل في مفاتن العروس (الصدر) وهي تُقال في حضرة العروس لتحريضها على الدخول سريعًا في عشّ الزوجية وعدم الخوف من هذه الحياة الجديدة، فالزوج يفتقد العروس ويشتاق إليها، وسوف يضعها في عينيه.!

يحيا أبوها يحيا

المجموعة: يحيا أبوها يحيا

المؤدية: نَصَب السرير ع الناحية

المجموعة: يحيا أبوها يحيا

المؤدية: يحيا أبوها يا جدعان

المجموعة: يحيا أبوها يا جدعان

المؤدية: يحيا أبوها وشَنِبُه

المجموعة: يحيا أبوها وشَنَبُه

المؤدية: إللي محدش غلبه

المجموعة: يحيا أبوها وشَنَبُه

 

mahmed hmam · يحيا ابوها وشنبة

 


أغنية يحيا أبوها وشنبو (فولكلور مصري)

 

يمجّد هذا النص الأدبي من شهامة ومروءة والد العروس الذي عامل ابنته أحسن معاملة، وجَلَبَ لها أفخر الأثاث، وهنا نلحظ صمود مفردات من التراث الشعبي في وجه الزمن. فالسرير "أبو عِمْدان" كان دليلا على الثراء والمقدرة المالية والتقدير للعروس، والأغنية هنا تقوم بوظيفة التحريض الإيجابي. فالعريس هنا مُطالب بأن يهتم بأثاث عروسه وأن يجلب لها الأثاث الفاخر مثلما فعل الوالد الكريم. كما أن الأغنية تقدم القدوة عندما تدعو العريس لأن يكون شجاعا مثل والد العروس "محدش غَلَبُه" وأن يستمر في الدفاع عن الأمانة الغالية التي سوف يتسلم مفاتيحها هذا المساء!.

المؤدية: ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح

وشوف الحلوة اللي عودها سارح

رجلى بتوجعنى ..

المجموعة: من إيه ؟

المؤدية: رجلي بتوجعني من مشى امبارح

المجموعة: ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح

المؤدية: إيدى بتوجعنى

المجموعة: من إيه ؟

المؤدية: شعري بيوجعني

المجموعة: من إيه؟

المؤدية: شعري بيوجعني من شد امبارح

المجموعة: ياللي ع الترعة حود ع المالح

المؤدية: خشمي بيوجعني

المجموعة: من إيه؟

المؤدية: خشمي بيوجعني من بوس امبارح

المجموعة: ياللي ع الترعة حود ع المالح

المؤدية: وسطي بيوجعني

المجموعة: من إيه؟

المؤدية: وسطي بيوجعني من رقص امبارح

المجموعة: ياللي ع الترعة حود ع المالح

المؤدية: ضهري بيوجعني

المجموعة: من إيه؟

المؤدية: ضهري بيوجعني من نوم إمبارح

 

 

يكاد هذا النص الأدبي الذي يُغني على إيقاع سريع (جملة موسيقية واحدة تتكرر) في ليلة الصباحيّة، بمرافقة الزغاريد والطبلة والتصفيق، يكون النص الشعبي الأكثر انتشارا في أعراس محافظات الصعيد ابتداءًا من محافظة المنيا وصولا إلى أسوان، وهو يحتوي على عناصر ثقافية مرتبطة بالبيئة النيلية، والأغنية المرتبطة بالنص تُغرى الفتيات اللائي لم يتزوجن بضرورة الزواج (رباط الأسرة في الصعيد) للتمتع بمباهج الحياة، كما تمتعت بها العروس في ليلة العمر.

على أية حال، لا يقصدُ الحديث عن دور النساء الجنوبيات الحاسم في الحفاظ على الموروث الشعبي، تمجيدهن بشكل عاطفي، لكن التأكيد على حقيقة مرئية، فهنّ يتحملن العبء الأكبر في طقوس الوفاة والكَّرب، نفس النسوة تقريبًا (المؤديات الشعبيات) يغنين نصوص الفَّرْح بدرجة عالية من المسئولية والصدق، تُلحظ في قطرات العَرَق الذي يتصبب من جباههن وهن يرقصن أو يضربن على الدفّ أو الطبلة الفخارية.

 

رضوان آدم

صحافي مصري وقاص وكاتب اسكريبت للفِلم الوثائقي والفِلم القصير. صدرت له في القصّة مجموعتان عن دار روافد للنشر: جبلُ الحَلَب (2013)؛ دَبيبُ النّجْع (2019)؛ وفي الفِلم الوثائقي: يوسف إدريس؛ نجيب الريحاني؛ أسامة أنور عكاشة؛ سليم حسن... حفّار مصر القديمة؛ وفي الفِلم القصير: البلابيصة؛ اختناق القمر.

×