28 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

ليتيليير يمضي في السموات الروائية الأكثر نقاوة

رامي طويل

13 حزيران 2023

يقول الروائي التشيلي إنّ هدفه كان دائماً تأليف رواية لا يحدث فيها أي شيء، وفي الوقت نفسه يحدث فيها كلّ شيء (La Tercera)

نُشِرت هذه المراجعة في نسخة المراسل الأولى في حزيران/يونيو 2019.

 

«إنّها حكاية لا يحدث فيها شيء، وفي الوقت نفسه يحدث فيها كلّ شيء» هكذا يصف لورنزو مياكورا الرواية التي يحلم أن يكتبها يوماً. مياكورا، واحدٌ من شخصيّات ثلاث ابتكرها الروائي التشيلي إيرنان ريبيرا ليتيليير لتكون ثلاثة أعمدة يبني عليها روايته El hombre que miraba al cielo [الرجل الذي حدّق في السماء]. ليس مياكورا روائياً بالعرف، فهو لم يكتب شيئاً بعد. إنّه رسّامُ طريق، يعتاش من  لوحاتٍ ثلاث يرسمها على الأرصفة بواسطة الطبشور. يرسم بإتقانٍ لوحاته التي ستزول آثارها في اليوم التالي، مكتفياً بما تدرّه عليه من قطع معدنية قليلة. لكنّه ربما يكون روائياً بالقوّة، فهو يمتلك الرغبة الجارفة ويبحث عن حكايته التي لن تقول شيئاً وستقول كلّ شيء في الآن ذاته.

بينما يرسم مياكورا فإنّ رجلاً لا يفعل شيئاً غير إدامة النظر إلى السماء يثير فضول المارّة فيتوقفون إلى جواره يحدقون إلى ما يحدق إليه فلا يرون غير سماء صافية. هو تماماً ما يثير فضول مياكورا الذي تنبهه لوريدانا أنّ الرّجل ربما يكون بطل الرواية التي يبحث عن كتابتها. لوريدانا ليست إلا بهلوانة تعتاش من تأدية ألعاب الأكروبات عند إشارات المرور.

هي إذاً ثلاث شخصيات يحاول ليتيليير أن يختزل الحياة في تشيلي من خلالها. ففيما يحدّق الرجل إلى السماء دافعاً الناس للنظر إليها، ويؤكد لمياكورا أنّ: «إنسان الريف لا يرى السماء لأنها دائماً هناك في الأفق، أما إنسان المدينة، فلا يراها كثيراً، ومن  ثمّ هو ينسى أنّ هناك سماء»، ينكبّ مياكورا على عمله مستمراً برسم لوحاته، السيدة العذراء والطفل، سفينة القراصنة، والببغاء، دافعاً المارّة للإنحناء والتحديق في لوحاته الملتصقة بالأرض. وبين هذا وذاك تقفز لوريدانا منفّذة ألعابها البهلونية في المساحة الفاصلة بين الأرض والسماء. في الهواء الذي يمكن الطيران عبره. إنّها الأنثى الرقيقة كفراشة القاسية الشرسة كلبوءة.

رجلٌ يديم النظر إلى السماء ولايملك حنجرةً، بعدما تمّ استئصالها بسبب المرض. يتحدّث بواسطة مكبّر للصوت يضعه أمام الثقب الذي أحدث في رقبته ليخرج صوته عميقاً كأنه يخرج من المريء. إنّه تماماً ذلك الصوت الخافت المتحشرج لفقراء يعبرون في الحياة فيمنحونها المعنى دون أن يتركوا، عند رحيلهم، أثراً. حياتهم أشبه برسومات مياكورا التي تزول آثارها في اليوم التالي.

صدرت عن دار الساقي عام 2019، ترجمة محمد مصطفى

 

ثلاثيات متشابكة

للوهلة الأولى تبدو شخوص ليتليير صادمةً ببساطتها ووضوحها، لا تفسح مجالاً للقارئ أن يشعر بغربتها عنه، أو أن يقنع نفسه أنّه أمام شخصيات أدبيّة. إنّها شخوص من لحم ودم ينتبه من يقرؤها أنّها كائنات حاضرة على الدوام قربه، يعبر جوارها دون اكتراث. غير أنّ ذلك هو بالضبط ما يعني اشتغالاً وجهداً كبيرين صبّهما ليتيليير في بنائه لهذه الشخصيات. لقد استطاع أن يسقط عنها كلّ شبهة أدبية لتغدو شخصيات حيّة، وهو تماماً ما يتطلّبه العمل الروائي الحق. عبر ثلاثيات متشابكة يبني ليتيليير سرده. (السماء، الأرض، والفراغ بينهما)، (الرجل الناظر إلى السماء، الرسّام، والبهلوانة)، (الزمن الحاضر، الماضي، والمستقبل). حتى جريمة القتل الواقعة في الماضي والماضية بآثارها عبر الحاضر نحو المستقبل كان أبطالها ثلاثة مجرمين، وضحاياهم ثلاثة أيضاً، إذا ما استثينا جرو الكلب الصغير. وكذلك رسومات مياكورا، هي ثلاث لوحات يمكن قراءة الكثير من خلالها، فما يثير انتباه المارّة هي مواضيع ثلاث، السيدّة العذراء والطفل. سفينة القراصنة. الببغاء. إنّها تماماً مأساة شعوب فقيرة تُضطَهدُ لتلقينها أن يكون أفرادها مجرّد ببغاوات، وتدغدغ طموحات القراصنة أحلامها فيردعونها بالإرتداد إلى المقدّس الغيبيّ، وبذلك يواصلون حياتهم تحت وطأة الفقر والموت جوعاً أو مرضاً جرّاء استشراء مرض السرطان، وحالات التسمم نتيجة تلوّث المياه، أو زيادة تركيز النحاس في الهواء الذي يستنشقونه. الجرائم الصغيرة تعيش معهم وتتحكّم بمصائرهم ويدفعون أثمانها، بينما جريمة واحدة بحجم الوطن تسلّط سيفها إلى رقابهم لتعتاش منها حفنة قليلة العدد تمسك زمام السلطة. فيغدو النظر إلى السماء ملاذاً، والسعي خلف أكثر السماوات نقاوة غاية تستحق الموت لأجلها. وهو ما يجعل سان بدرو دي أتاكاما غاية الرجل الذي يحدّق إلى السماء، والتي يصف ليتيليير سماءها بأنّها «أكثر سموات تشيلي صفاوة»، إنّها «المكان الذي سوف يموت فيه من يحدقون في السماء» كما يقول مياكورا، فتصوّب له لوريدانا: «المكان الذي سوف يموت فيه عشّاق السماء».

 

سرد مختزل يصيب عمق المعنى

في حوار مع صحيفة La Tercera التشيليّة، يقول ليتيليير إنّ هدفه كان دائماً تأليف رواية لا يحدث فيها أي شيء، وفي الوقت نفسه يحدث فيها كلّ شيء. وهو ما جعله رغبة بطله مياكورا في روايته الرجل الذي حدّق في السماء. وبقراءة بسيطة لما استطاع ليتيليير تحقيقه في هذه الرواية، وقبلها في روايته La contadora de películas [راوية الأفلام] يمكننا الوقوف على تحقيق قسط كبير من هذه الغاية. في الترجمة العربية لم تتجاوز صفحات الرجل الذي حدّق في السماء التسعين صفحة. أمّا راوية الأفلام فبلغت صفحاتها المئة فقط. غير أنّه في كلا الروايتين امتلك ليتيليير مقدرةً هائلة على الاختزال والتكثيف. ليروي في صفحات قليلة ما يغوي كتّاباً كثراً أن يفردوا له مجلّدات كبيرة. هي صنعة الرواية المتقنة، حيث لا مكان لعبارة زائدة، أو كلمة لا غرض لها في السرد. تكفي حكاية صغيرة لرجل من القاع لتشرح مأساة شعب كامل دون الوقوع في مطبّ السرد الأجوف بغية تكرار ما يمكن أن تسمعه وتشاهده في نشرات الأخبار كلّ يوم. وإن كانت شخصيّتا الرجل الناظر إلى السماء، ورسّام الطريق، تحتويان قدراً من الاستسلام لمصيرهما، الأول بغية الوصول إلى هدفه نحو سماء أتاكاما الأكثر صفاوة، والآخر الذي سيعيد انتاج هذا الواقع الذي يمعن في مراقبته في عمل روائي لا يقول شيئاً ويقول كلّ شيء في الوقت نفسه، فإنّ ليتيليير استطاع أن يخلق مساحة للإعتراض والثورة عير شخصية البهلوانة، التي تعيش الحب مع مياكورا كفعلٍ يوميّ طبيعيّ لا حاجة للاستفاضة في شرح تفاصيله المعروفة للجميع، والتي يمكن أن تودع السجن عقاباً لها على خدشها السيارات الفارهة التي تصادفها في الطريق. هي ثورة حقيقيّة لم يجد ليتيليير حاجة لأكثر من ثيمة واحدة لشرحها، هو الذي يصف نفسه في الحوار الصحافي مع La Tercera: «لستُ كاثوليكياً أو إنجيليّاً. لقد تلقيتُ مصلاً ضدّ الأديان عندما كنتُ شابّاً... كنتُ دائماً فوضوياً. لم ألعب لعبة السياسة أو الدين، والآن أعرف نفسي أنّني يساريّ منذ الميلاد، وفوضويّ ممّن يحترمون إشارات المرور».

يصف ليتيليير عمله الرجل الذي حدّق في السماء بأنّه «أطول من قصة وأقصر من رواية»، ربما أراد بتوصيفه هذا حماية نفسه من ألسنة هواة تصنيف العمل الروائي بحسب حجمه. فمقوّمات السرد القصصي تفترق عن مقوّمات السرد الروائي، وإن تلاقت معها في مطارح عديدة. تحمل الرجل الذي حدّق في السماء ثيمة قصصية في الحدث الذي يختزل حياة الرجل الناظر إلى السماء، لكنّها بعيداً عن هذه الثيمة فهي سردّ وبناءٌ روائي بامتياز، لا يمكن إدراجه مطلقاً تحت مسمّى القصة. فالحدث ليس بؤرة العمل، وما سيحدث ليس غايته، بل الغاية هي كلّ التفاصيل الدقيقة الكامنة في كلّ صفحة، وأحياناً في كلّ عبارة أو مفردة. هي نموذج عن رواية تبحث في كيف حدث ذلك، دون اكتراث للإجابة عمّا سيحدث.

رامي طويل

كاتب ومترجم من سوريا، صدر له في الرواية: قبعة بيتهوفن (2021)؛ حيوات ناقصة (2018)؛ رقصة الظل الأخيرة (2014)؛ وفي القصة: امرأة عند النافذة (2022)؛ قبل أن تبرد القهوة (2015)؛ الخاتم (2008).

×