28 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

مقابلة – التصوّف، أصوله ومستقبله وعلاقته بالسلطة

حبيب الحاج سالم

8 حزيران 2023

محمد خالد عبده: حين ننظر إلى الواقع الحالي، نجد أن ما حبّب التصوّف إلى الشباب مثلاً هو الأدب الذي اعتمد على التصوّف

نُشِرت هذه المقابلة في نسخة المراسل الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2018.

 

منذ بروزه، مثّل التصوّف الإسلامي ظاهرة إشكالية، إذ انقسمت الآراء بين مسفّه ومنزّه له، كما تعاظم دوره في حقب ومواقع جغرافية وتضاعف في أخرى، فاقترب أحياناً من السلطة السياسية ومواقع القرار الديني ووجدان الناس، واستُهدف في أحيان أخرى بصفته ضرباً من الابتداع والتجديف بعيداً عن التديّن القويم. لكن يبدو أن التصوّف حالياً بمظهريه الفردي والطُرقي يعيش ذلك كلّه مجتمعاً بأشكال مختلفة تتنوّع وفق خصوصيات كل مجال سياسي سيادي ووفق مصادر التلقّي المتاحة لكل فرد.

لإلقاء الضوء على بعض الإشكالات ومحاولة فهمها، نحاور خالد محمد عبده، وهو من من أغزر الباحثين في التصوّف إنتاجاً، ومن بين أعماله «المستشرقون والتصوّف الإسلامي» (دار المحروسة، 2016)، و«معنى أن تكون صوفيّاً» (دار المحروسة، 2015)، و«الروميّ بين الشرق والغرب» (بالاشتراك مع عائشة موماد، دار المحروسة، 2015)، إضافة إلى تحقيق عدد من المخطوطات التراثية وتحرير كتب رائدة حول الطريقتين البكتاشيّة والنقشبنديّة والتصوّف الأكبريّ (صدرت عن مركز المسبار للدراسات).

 

فلنبدأ مما يسمى مصادر التصوّف. ذهب بعضهم إلى أن التصوّف «توليفة شرقية»، وتوجد إشارات إلى تتلمذ ابن عربي في الأندلس في مدارس تعلِّم الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية سرّاً، وتوجد نزعات صوفيّة في المسيحية واليهودية والهندوسية... كأنّ الأمر مرتبط بتديّن بلا ضفاف.

ثمة نظريات كثيرة حول مصدريّة التصوّف الإسلامي: هل هو من الكتاب والسنّة، وهل تأثر بالمصادر المسيحية واليهودية والهندوسية؟ غالب من درسوا التصوّف تطورت آراؤهم في الموضوع مع الوقت. لما بدأ رينولد نيكلسون مثلاً دراسته، قال إن التصوّف متأثر بالمسيحية، ويوجد من قال إنه متأثر بمذاهب هندية قديمة ومنهم من القدماء أبو الريحان البيرونيّ. حتى فكرة أن التصوّف مأخوذ من ديانات سابقة عن الإسلام موجودة في التراث الإسلامي وليست مقولة استشراقية، ففي حقيقة الأمر للتصوّف الإسلامي شواهد وأفكار إسلامية تدعمه، وقد ذهب لويس ماسينيون في بحثه عن نشأة المصطلح الصوفي في الإسلام إلى أنّ القرآن والسنّة هما المصدران الأساسيان للتصوّف، وقد أخذ تلميذه، الأب بولس نويا، الفكرة عنه، كما يتبنى نيكلسون هذا الرأي أيضاً وكذلك غالب المستشرقين الذين نذروا حياتهم للبحث في المسألة.

لكن النقطة الأهم التي تسأل عنها تتعلق بتأثر التصوّف بالمدارس السابقة، والإجابة هي: نعم. لا يمكن أن ننكر مثلاً تأثير الفلسفة اليونانية في ابن مسرة الأندلسي، أو تأثير الحضارة الفرعونية في ذي النون المصري، أو تأثير الأفلاطونية المحدثة في ابن عربي، فمن يريد أن ينزّه التصوّف عن مثل هذه التأثيرات لا يعرف معنى التصوّف الحقيقي، فهو منزع روحي لا يقطع مع أيّ شيء سابق، بل يستفيد من كل ما يأتي إليه.

ثمة عند الصوفيّة مقولة تتحدث عن أن «شمس المتصوّفة تسطع في منتصف الليل»، وأن الصوفي في مقدوره أن يحوّل المرّ إلى حلو، أي يهضم، فما التصوّف الإسلامي إلا خبرات دينية انفتح عليها الصوفي فهضمها وكوّنت خبرته.

حتى عندما يتحدث الناس عن تأثر الإسلام بالمسيحية، وهذا ظلّ موضوعاً رئيسياً للتفكير لدى المستشرقين كافة، فمنهم من يصل حتى إلى القول إن الإسلام هرطقة نسطورية، لكنّ الإسلام لم يقطع فعلاً مع السابق؛ يقول النبي محمد نفسه: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ». في النهاية، يوجد بناء سابق لا تقطع معه، وتكلم القرآن على التوراة والإنجيل في أكثر من موضع، فمن الطبيعي أنّه لم يقطع مع الأديان السابقة بل جاء ليتممها، مثل ما قال المسيح: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ»، وقد فعل النبي محمد الأمر نفسه، وهو قال إنه لبنة في بناء.

بالمثل، هكذا نجد التصوّف، بما أنّه شيء من الإسلام، أو «قلب الإسلام» كما جاء في عنوان سيد حسين نصر، وكما يقول كل من اشتغل على التصوّف. إذن، أخذ التصوّف مما سبقه وتأثر به. هذه حقيقة قارّة، لكن هل الشخصية الصوفيّة الإسلامية مكتملة ولها تجربة ذاتية أو تابعة؟ هي في الحقيقة شخصيات صوفيّة لديها تجارب ذاتية ثرية مثل الحلاج والبسطامي والرومي، ويقول الأخير في كتابه فيه ما فيه: «أنا خادم القرآن وذرة تراب المصطفى»، أي خادم القرآن والسنّة، لكن كان له أيضاً محاورات مع راهب (...) وعاش في حضارة يونانية، وتوجد مصطلحات يونانية في المثنوي الذي يحوي أيضاً مصطلحات مسيحية ذات منحى صوفيّ. إذن، هو متأثر بديانات ومذاهب وفلسفات، ولم ينكر ذلك، لكن له شخصية فرضها على العالم كلّه لأن له تجربة ثرية.

في نهاية الإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إن أفضل من ناقش مصدريّة التصوّف جيداً هو أحد الكتاب المصريين الأوائل في الجامعة المصرية، واسمه مصطفى حلمي، في كتابه الثورة الروحيّة في الإسلام

عبده: أرى أن الحلاج ثائر، بمعنى أن له فكرة آمن بها ودعا إليها

 

لكن لم يكن هذا التأثر بعيداً قط عن سوء الفهم أو السخط، ويشمل ذلك السلطة السياسية، فقد قتِل مثلاً الحلاج والسهروردي وآخرون.

نجد أنّ للصوفيّ صاحب التجربة، وليس صاحب الطريقة، إعلاناً للذات، وفق عبارة محمد إقبال، فهو يعلن ذاته عبر تجربته ونصّه الذي كتبه، وهذا يخلق مشكلة حقيقية. لو تدبرنا سيرة الحلاج على سبيل المثال، نجد أنه آمن بذاته وأعلن نفسه بمقولته الشهيرة: «أنا الحق» التي يحلّلها إقبال بأسلوب ممتاز (مشروع محمد إقبال، الذي يوصف بفيلسوف الذاتيّة، قائم على هذه المقولة) على شاكلة أن الإنسان عندما يصل إلى الله يفنى فيه، لا بالمعنى السلبي على نحو أن الله حلّ فيه كما هو شائع عند بعض الذين يقتصرون على ظاهرية الكلمة أو تمسّك بنصها دون أن تنفذ إلى العمق.

أرى أن الحلاج ثائر، بمعنى أن له فكرة آمن بها ودعا إليها، وقد ذهب إلى الحج وأعلنها للناس (كان للحلاج مذهب في التصوّف، وإن لم يقرّ المتصوّفة المعاصرون بذلك، فقد كتب ماسينيون عن هذا المذهب بحثاً تُرجم إلى العربية في ما بعد). من الطبيعي أن هذا الذي تجمّع حوله الأتباع والمريدون يصير عبئاً على الدولة بالمعنى السياسي وليس الديني، ويشكّل خطراً على العلماء المدرسيّين الذين يدعمون السلطان ويلبّون حاجته فقهاً وكتابةً ويخدرون المواطنين، إن صحّ استخدام مصطلحي مواطن ودولة في التراث الإسلامي.

دائماً يقلِق أصحاب الأفكار السلطان، إذ يسببون توتراً وقلقاً. حتى إننا نرى في مسيرة الحلاج أن بين محاكميه فقهاء الشافعية، وبعض من دافع عنه من فقهاء الحنابلة، فليس المذهب هو المحدّد في القضية، بل خطر الشخص على العوام، الذي يحدّده القريبون من السلطان. لكن، هل تسبّب اتصال الصوفيّة بحضارات سابقة أو مجاورة وبأديان أخرى في مشكلات للمذاهب الإسلامية الأخرى أو الدولة؟ نعم، حدث ذلك وكان من مصلحة بعض الفقهاء أن يصعّدوا مثل هذه القضايا، لأنه توجد دائماً شبهة في الاتصال بالآخر والأخذ عنه، وبصورة خاصة إذا كان الآخر مخالفاً للدين، فلو تواصلت الآن مثلاً بشخصيات تحاربها أو تعاديها أو تعارضها دولتي، فسيجد من يريد أن يشي بي لدى السلطة ما يدعمه، فالعلماء كبقية الناس على دين ملوكهم، فإذا كانوا هم مثلاً يعادون أو يردون في كتاباتهم على المسيحية، بناء على توجه السلطان الداعم للردّ على المسيحية، مثلما فعل المتوكل في عصره، فسيدعم العلماء السلطان في حال ظهر منزع جديد ضد توجههم.

لكن يخطئ بعض المتصوّفة أيضاً في توسيع حلقة الاستفادة من الآخرين، فيظهرون مثلاً تعاطفاً مع المسيحي الذي يعلن خصومته للإسلام، ومنهم بعض المعاصرين الآن في مصر، فإبان وقت الثورات أو الانتفاضات، كان المتصدر في الدولة هو الإسلام الحركيّ، ووُجدت بعض الشخصيات المعادية للإسلام، مثل وفاء سلطان التي قالت إن الإسلام إرهابي وأشياء من هذا القبيل، وبثّتها تلفزة مسيحية تبشيرية، فكان أن تبنّى بعض المتصوّفة المسلمين آراءها نكاية في الإسلام الحركيّ. لا نستطيع أن نقول إن هذا من صنف تأثير الحضارة المسيحية في التصوّف الإسلامي، بل هذا من باب النكاية بفريق معيّن وإعلان الذات بطريقة مخطئة تزيد خصوم التصوّف، وتجعل صورته معيبة ومشينة.

 

صار التصوّف نفسه في أوقات وسياقات معيّنة قريباً من السلطة، ففي تونس مثلاً تروي لنا كتب التاريخ تفاصيل زيارات البايات (الملوك) إلى المقامات الصوفيّة وخدمتهم لها، فصارت أشبه بأيديولوجيا حكم، وكذلك في تركيا حيث مثّلت الطريقة البكتاشيّة مثلاً خلال المرحلة العثمانيّة حاضنة لمقاتلي النخبة العسكرية الانكشارية، فكان لها نفوذ في أوساطهم، وتذهب بعض التأويلات إلى أن ذلك تسبب في انحدار غالبية منتدبي الجيش الانكشاري من مجتمعات البلقان وشرق أوروبا المسيحية أو التي لها أديان تقليدية، وقد سمحت لهم الطريقة بتوليف أفكار إسلامية وأخرى ورثوها من مجتمعاتهم. كيف ترى ذلك؟

العودة إلى تاريخ التصوّف تجعلنا نسأل: ما التصوّف؟ فإذا عدنا مثلاً إلى حالة البكتاشية وانخراطها في جيش الدولة، يجب أن نعلم أنها لم تكن على حال واحدة، فإذا كانوا تاريخياً مشاركين في الدولة، فقد أصبحوا الآن عبئاً عليها. صارت البكتاشية الآن صاحبة حزب معارض داخل الدولة، لكن بما أن الأمور ليست بهذه البساطة، وهي معقدة حقيقةً، لأن تكوين البكتاشية العقدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي أيضاً مختلف، فقد اختلفت الأمور من التاريخ إلى الوقت الحالي، إذ كان جيش الانكشارية من البكتاشية، لكن بعد ذلك تطوّرت الأمور فصُعّدت مسألة معتقدهم وابتعادهم عن أهل السنّة، وهم يوردون في أدبياتهم أنّهم يؤمنون بالتثليث كما المسيحيّة على شكل: «الله، محمد، علي».

لكن، وبما أن البكتاشية تنظيم، وإسلام موازٍ لإسلام الدولة، فقد استطاعوا تكوين كتلة حقيقية والحفاظ على أنفسهم ومعتقدهم ونخبويتهم مع اقتصاد موازٍ، والتبشير بطريقتهم خارج الحدود التركية، وفرضوا أنفسهم على الدولة. صارت البكتاشية الآن تؤخذ بالاعتبار لأنها أقلية لها ثقل حقيقي داخل الدولة وناشطة في أوروبا، وحتى رئيس الدولة المتعصب لسنّيته، كما يقول، ويحلم كما يقول الناس، باستعادة الخلافة والدولة العثمانية لا يستطيع أن يمسّ هؤلاء لأنهم أصحاب قوة وسطوة داخل الدولة، وحضور في العالم الغربي الذي يطمح إليه أيضاً رئيس الدولة.

لا أظن أنّي أجبت عن السؤال كاملاً لكن النقطة الأهم أننا لا نستطيع أن ننظر إلى التاريخ على النحو الذي ننظر به إلى الواقع، إذ ثمة مفارقة كبيرة جداً بينهما.

 

يوجد اليوم توجّه واضح لاستثمار أنظمة سياسية في الطرق الصوفيّة في العالم الإسلامي بصفة عامة، من مشرقه إلى مغربه. حتى إنه يوجد سعي لخلق مشيخات وبؤر صوفيّة جديدة. طوال تاريخه الحديث، يمكن القول إنه كان للتصوّف رأسان ارتبط أحدهما بمقاومة الاستعمار، من ليبيا إلى جزيرة آتشيه والبلقان، وارتبط الآخر بخدمة السلطان، وهو الاتجاه السائد اليوم. كيف يمكن تفسير ذلك؟ وما الخطر الذي يمثّله على التصوّف في حدّ ذاته؟

صوفيّة المقاومة كانت موجودة على امتداد التاريخ الإسلامي. في المغرب العربي مثلاً، قامت الصوفيّة بثورات ورفضت استبداد السلطات. جهاد الصوفيّة معروف ضد الظلم والعدوان، من محمود بن العلي إلى بن برجان، ولو قرأت مثلاً رسائل جلال الدين الرومي، فستجد أنه يتعامل مع السلطان مباشرة لقضاء حاجات الناس من منطلق القوة وليس الضعف، على عكس الحال الآن. صوفيّة السلطان الآن مرتبطون بالضعف، وهو ضعف معرفي أساساً، سواء أتعلّق الأمر بالتراث الصوفيّ أم بالإنسان المعاصر، وهم لا يريدون إلا تثبيت مكانتهم.

في مصر، توجد مثلاً شخصيتان كبيرتان هما الشيخ علي جمعة والشيخ أحمد الطيّب، وكلاهما متصوّف، وشغلا مناصب دينية مهمة، وفعالان في الحياة المصرية على المستوى الاجتماعي والسياسي أيضاً، لكنهما يمثلان نموذجين مختلفين. أحمد الطيّب شيخ الأزهر، وهو نموذج للصوفيّ الهادئ الذي يعمل بصمت، وحصّن المؤسسة الأزهرية وطوّرها في وقت عصيب، وله إنتاج معرفي يدل على فرادة شخصيته عبر ترجمته كتابات حول ابن عربي أو عطاءات متعلّقة بانخراطه وتعامله مع مؤسسات مسيحية في إطار الحوار الإسلامي - المسيحي.

أما علي جمعة، فيمثّل الحراك المجتمعي، لكني لا أظن أن رئيس الدولة أو مؤسسة الحكم في مصر تطلب منهما فعل شيء ما أو تملي عليهما أوامرها، وكلاهما له صورة معيّنة عند المجتمع ومؤسسة الحكم، ولكن هذين النموذجين هما مثال الصوفيّ الحديث وكيفية تعامله مع السلطة. الطيّب مثلاً كان منخرطاً في «الحزب الوطني» زمن مبارك، ثم تولى الإفتاء مدة قصيرة، ثم صار رئيس جامعة الأزهر، ثم شيخاً للأزهر، وجمعة وُلّي منصب الإفتاء وظل فيه، وحاول تنشيط هذا المنصب فأخرج بعض الإصدارات وقال إن دار الإفتاء تشهد أزهى عصورها في عهده، وهو لا يشغل الآن منصباً رسمياً لكنه يحظى بصدارة إعلامية بصفته شيخاً وله مكانته، ويوصف بالصوفيّ لأن له طريقته الخاصة التي صار معلناً إياها ويرأس احتفالاتها، لكن تعامله لا يمثّل التصوّف ولا يتلخص في شخصه، وكذلك الطيّب.

هل يوجد اختلاف بين ممارسة هذين الشخصين وممارسات الطرق الصوفيّة في مصر للسياسة؟ بالطبع لا، بمعنى أنها كلّها داعمة للنظام الحاكم بصورة أو بأخرى، وهي ترى أن هذا النظام له شرعية ولذلك لا بد من دعمه، مستسلمين له سواء أأحسن أم أساء، ولا يعبؤون بانعكاسات أداء النظام على الواقع المصري. كذلك، تدعم النقشبندية في تركيا نظام إردوغان.

 

نعم، لكن ذلك مرتبط بسياقات وطنية، أي هي طرق داخل وطن معيّن وتدعم سلطته، وقد توجد ضغوط ما على هؤلاء، لكن ما الذي يبرّر مثلاً مبايعة الطريقة النقشبندية الحقانيّة لملكي الأردن والمغرب دون أن تكون عليها ضغوط؟

ترى أنه توجد شرعية لهذا النظام أو ذاك فتبايعه، وهي تؤمن بفكر قديم، وترى أن هذه مملكة لها سلطانها وهو أمير المؤمنين، كما يفعل الصوفيّة في المغرب أيضاً حيث لا تستطيع أن تعارض أمير المؤمنين الحي، فهو يمثّل رأس دولة المغرب. لكن يرى بعض الصوفيّة أن مثل هذه التسميات لا تزال تحمل دلالات، فهي تحمل ميراثاً قديماً تحافظ عليه، وتلك طبيعة هذه الطرق، فهي لا تريد الفوضى والانشقاقات، وترغب في الأمن والأمان.

 

لكنّ ذلك قابل للاستثمار...

نعم، وللاستغلال أيضاً حتى على مستويات إقليمية، فالمتصوّفة يمثّلون كتلة مهمة وذات ثقل في المجتمعات العربية. في العراق مثلاً، توجد الطريقة الكسنزانية التي ينخرط فيها أكثر من ثمانية ملايين مريد، وكلّهم يتّبعون كلمة شيخ واحد، وإذا أراد نظام أو سلطة ما دعم نفسه، فلا بد أن يكسب ولاء هذه الطريقة وغيرها: امتيازات مقابل أصوات، سلطة مقابل شرعية. في النتيجة، توجد مصالحة بين الصوفيّة والسلطة في العراق وتركيا ومصر والمغرب، وبلدان أخرى.

لكن، هل يمثّل هؤلاء التجربة الصوفيّة في عمومها أو العطاء الصوفيّ؟ لا نقول بذلك، فلدينا شواهد على حدوث ثورات وتمردات في بقاع جغرافية مختلفة قادتها الصوفيّة، كما يوجد متصوّفة آخرون لهم آراء مختلفة كما حدث في الثورة المصرية في بدايتها مثلاً، وحملت النقشبندية في العراق السلاح... إلخ.

«التصوّف هو المساحة الوحيدة القادرة على الانخراط في العالم الحديث بخطاب ديني»

 

يقول بعض الباحثين، ومنهم حامد ألجار مثلاً، إنّه توجد نزعة لـ«قومنة» التصوّف مع الأتراك والإيرانيين ومجموعة أخرى من الدول القومية، بمعنى تحويلها إلى تراث قومي. بين آثار ذلك ظهور نخبة دينية مثقفة تتناول التصوّف والتنظير له من داخله، ومن هؤلاء مثلاً سيد حسين نصر، في حين يُفتقد هذا عندنا نحن العربَ كثيراً في مقابل التركيز على دراسة التصوّف أكاديمياً من خارجه. كيف ترى ذلك؟

محمد الغزالي من أبرز الدعاة في العصر الحديث، وله بعض الآراء النقدية تجاه التصوّف والطرق الصوفيّة وذلك لطبيعة عمله السابق داعية ومسؤولاً في وزارة الأوقاف، لكنه كتب قبل وفاته مقالة عن «التصوّف الذي نريده»، وجاء فيها أن التصوّف منجم فيه من الكنوز الخبيئة ما فيه، وهو الوحيد الذي في مستطاعه أن يكون قادراً على وصل القلوب بالله، وكلام من هذا القبيل عن روحانية التصوّف وبهائه.

صدر هذا الكلام عن شخص ليس صوفيّاً، وأنا أريد أن أسجّل كما سجّل وغيره أنّي لست صوفيّاً ولا أحب الانتماء إلى فرقة من فرق المسلمين، وأمثالنا هم الحريصون على مساهمة التصوّف في تجديد الفكر الديني، لأنّي أرى أن التصوّف هو المساحة الوحيدة القادرة على الانخراط في العالم الحديث بخطاب ديني. من الممكن بالتأكيد الانخراط في العالم الحديث بخطاب غير ديني، لكن بما أنّي أنتمي إلى حضارة إسلامية، وأعيش في مجتمع عربي مسلم، فإذا أردت أن أوجّه خطاباً من داخل بيئة «إسلامية عربية»، فلن يسعفني غير خطاب التصوّف لأن فيه قيماً إنسانية ولا مشكلة له مع أحد من أجل مذهبه أو دينه. يقول الرومي مثلاً: «تعال، تعال، لا يهمّني من أنت»، و«كن كما أنت»، فهو لا يطلب مني أن أتخلى عن شخصيتي وانتمائي من أجل أن أنخرط في تصوّفه أو طريقته أو مذهبه في الحياة.

أما عن أسباب عدم تجديد المتصوّفة خطابهم، أو الاستفادة من تراثهم الثري كما حال غيرهم من أهل الحضارات الأخرى واللسان غير العربي، مثل الفرس أو الأتراك، فذلك من قبيل الكسل المعرفي. لقد صار عند الصوفيّة أمراض كثيرة، فعلى سبيل المثال صارت المشيخة بالوراثة: يموت الشيخ فيرثه ابنه وقد لا يكون له علاقة بالتصوّف ولم يذق شيئاً من معانيه، فكيف تطلب من وارث غير مؤهل أن يجدّد خطاباً لا يعلم أبعاده ولا أصوله ولا مبادئه؟

هذا من ناحية، ونجد من ناحية أخرى أن المنتسبين إلى الصوفيّة وطرقها في العالم العربي الآن هم أبعد الناس عن التصوّف. فكما أن للطرق دوراً مهماً جداً في جمع عدد كبير من الناس وإحياء آراء مشايخ التصوّف والحفاظ على التراث الصوفيّ، كتراث ابن الفارض الأغاني والمديح، فإنّ لها كذلك أيضاً دوراً كبيراً في اغتيال التجربة الصوفيّة والقضاء على إبداعيّتها، فحين ننظر إلى الواقع الحالي، نجد أن ما حبّب التصوّف إلى الشباب مثلاً هو الأدب الذي اعتمد على التصوّف.

 

في ما يتعلّق بالطرق الصوفيّة، نجد أن تعاملها مع شخصية كابن عربي مثيرة للاهتمام، وذلك يشمل أيضاً شخصيات مثل علي جمعة في مصر أو شمس الدين بوروبي في الجزائر، فلا تكفّره وتدافع عنه لكنها تحذّر العوام من قراءته لأنّهم «غير مؤهلين» لذلك، وهو ما جعل كتاباته تبقى على هامش القراءات الشعبيّة. ما تفسير هذا السلوك؟

طرحت في السؤال اسم ابن عربي، وهو من «الشخصيات القلقة في الإسلام» وفق تعبير عبد الرحمن بدوي، وليس شخصية بسيطة، بل يحمل زخماً كبيراً وتراثاً ثرياً للغاية. كتبتُ دراسة عن ابن عربي في مصر (نُشرت في كتاب المسبار: التصوّف الأكبريّ) ورصدت فيها التناقضات والتوترات في الحديث عنه، فمنذ وُلد الرجل حتى هذه اللحظة، أي بعد قرون من وفاته، لا يزال محلّ نزاع بين الصوفيّة وبين السلفية والمحافظين، وبين الصوفيّة أنفسهم. ذكرتَ شخصية مصرية شهيرة هي علي جمعة، وهو صاحب مدرسة صوفيّة في مصر وأعلن أخيراً تأسيسه طريقة صوفيّة تنهل من معين التصوّف الشاذليّ، وسمّاها «الصدّيقيّة». لم يقم جمعة، الذي له عدد كبير من المريدين وحضور في العالم العربي وخارجه، باستثمار ابن عربي، وكذلك لم يفعل غيره.

يعيدنا ذلك مرّة أخرى إلى مسألة الكسل المعرفي، فحينما سُئل جمعة عن تكفير ابن عربي وصحة ذلك أو خطئه، قدّم إجابة تمتد إلى تراث الشيخ زكريا الأنصاري، فكرّر إجابة الأخير عن السؤال، ومفادها عدم تكفيره، أي لم يبدع أو ينتج جديداً ولم يستثمر شيئاً من تراث ابن عربي للإجابة.

إذا ابتعدنا عن العالم العربي، فسنجد استثماراً لتراث ابن عربي، فحين أرادت كلود عدّاس مثلاً أن تكتب عن تراثه وسيرته وفكره أنتجت نصّاً ممتازاً عنه. حتى إن شهرتها ارتبطت بكتابتها هذا الكتاب. وفي محيط الأدب، استثمر أحد الكتاب الجدد من الشباب السيرة التي كتبتها عدّاس وأنتج عملاً أدبياً عن ابن عربي عنوانه موت صغير، جذب الكثير من الشباب للتعرّف إلى عالمه، ولم يفعل أيّ من المتصوّفة أصحاب هذا التراث ذلك، لأنهم غير قادرين، وهم مجرد ورثة لمقولات، ويشتغلون بخصومات ليس هذا زمنها حول التوسّل والتبرّك وزيارة المقامات، فيستهلكون أنفسهم في مسائل من قبيل جواز التسبيح على المسبحة أو الأيدي... وهي مشكلات زائفة وبعيدة عن التطلعات الروحانية لجيل كامل متعطش لخطاب ديني ذي صبغة إنسانية يجعله منفتحاً على العالم.

الغربيون هم أكثر من يستثمر هذا التراث، ولا ينتسبون إلى ملّة الإسلام والحضارة العربية، لأن لديهم قدرة على تأويل هذا الخطاب وتطويره ليست لدى غيرهم. وكلما جرت العودة إلى الوراء وتبنّينا قضايا ميتة، يستحيل الإبداع والتطوير، ويحدث النهل من دركات الانهيار والضعف وليس من منابع القوة الحقيقية التي هي بمكانة المنجم غير المكتشف لنا بعد.

لكن العرب ليسوا على صورة واحدة طبعاً، فإذا قصّرت مجموعات، يوجد أفراد استفادوا من هذه الخبرة الغربية في التعامل مع التراث الصوفيّ، فمثلاً شيخ الأزهر، الطيّب، وهو يقف على رأس أكبر مؤسسة دينية إسلامية في العالم كلّه، قدّم إلى التراث الأكبريّ ما لم يقدمه أيّ من الصوفيّة المعاصرين، فقد ترجم كتاباً ضخماً عن ابن عربي ألّفه عثمان يحيى بالفرنسية ليعرّف الناس إلى تراثه، إضافة إلى متابعته الدراسات الغربية في فرنسا... وجد أن أحد كبار الكتّاب في هذا الجانب خصّص حياته ورهنها بابن عربي، وهو ميشيل شودكيفتش، فترجم له كتاباً بعنوان الولاية والنبوّة عند الشيخ الأكبر بن عربيّ.

 

تحدثتَ في السؤال السابق عن الأدب ودوره في تحسين صورة ابن عربي لدى عامّة الناس، ونشهد الآن أيضاً سطوع نجم الرومي لدى الشباب خاصة، ولدى فئات مرفّهة، فهل يبشّر ذلك بنهضة جديدة للتصوّف تكون فردانيّة هذه المرّة تساوقاً مع النزعة الفردانيّة السائدة في أجزاء من العالم؟

ذكرنا في بداية الحديث فرار الناس من الخطابات الدينية السائدة كافة لأنها لم تعد تشبع حاجاتهم الدينية وتجيب عن أسئلتهم، كما أنها خيّبت ظنونهم عندما صعد أهلها إلى الواقع العملي، فساهموا في الأحداث المتعلّقة بثورات أو إنتاج خطابات جديدة في بلاد ما بعد الانتفاضات مثلاً. ما الذي يلبّي حاجة الناس الروحية؟ الروحانيات طبعاً التي قد تتمثّل في تيار ذي صبغة إسلامية، أو تمارين روحية مثل اليوغا وما شابهها، مثل أوشو أو غيره من الشخصيات التي أضحت مشهورة في العالم العربي، ومن ضمن هذه الطروحات التصوّف الذي له علاقة بالموسيقا والأدب والفن عامة، ويمكن أن يجعل حتى المرء الذي فارق الدين ملحداً بأسلوب أنيق، ويتيح لمن يريد أن يكون متديناً أن يفعل ذلك بشروطه الخاصة لا بشروط أهل الشريعة أو الفقه، فيمكن أن يصير متديناً في لحظات ما بالاستماع لأنواع من الموسيقا أو مشاهدة فيلم يعالج قضية صوفيّة أو يستثمرها، كما الأمر مع سينما ناصر خمير مثلاً، وكذلك فرق موسيقية وأشخاص مثل ظافر يوسف وآخرين.

إذن، سمح التصوّف لأشخاص أن يكونوا متديّنين بعدما كرهوا المتحدثين باسم الدين دون أن يقدروا على التخلي عنه، فبحثوا عن شيء يلبّي حاجاتهم الفرديّة وليس عن الانتماء والهويّة والمصطلحات الكبرى. سمح انكشاف الحدود عبر التكنولوجيا أن يتعرف الناس إلى معتقدات بعضهم بعضاً، وصار في إمكان المرء أن يشكّل تجاربه الدينية الخاصة بعيداً عن الوراثة. ولا يقرب الشباب الطرق الصوفيّة إلا بقدر ما تلبّي حاجاتهم، فهم يُقبلون أكثر على مهرجاناتها، فيحضرون الاحتفالات والحضرة ثم يعودون إلى حياتهم العادية، لكن لا يعرف هؤلاء الشباب أن الصوفيّ القديم كان يعيش يومه جامعاً بين الشريعة والحقيقة والطريقة وينتج فيها لكنه يحافظ في الوقت نفسه على تجربته الذاتيّة ولم تمّحِ شخصيته التي تظهر في ما يكتبه في مختلف المجالات.

يلبّي التصوّف حاجات الإنسان المعاصر، لكن أيّ تصوّف؟ التصوّف الذي ينتجه الإنسان الحديث عبر التعامل معه كمادة خام ولا يتعامل مع المتصوّفة إلا كأشخاص عاديين لرفضه السلطة الأبوية بكل صورها السياسية والدينية.

حبيب الحاج سالم

صحافي تونسي.

×