27 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

نضال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فرض كفاية في تونس

سفيان جاب الله

5 أيار 2023

ظلت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية جنة منشودة لكنها مفقودة رغم تحقق المسار الانتقالي عبر ديمقراطية تمثيلية (KAMERAPHOTO)

نشِر في نسخة المراسل الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 2018.

 

«عَجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»، تُنسب هذه المقولة إلى من يوضع، بلغة هذا العصر ومعاييره، على يسار الإسلام، بسبب مواقفه من الظلم والاستغلال، وحكم بني أمية. وهذا ما يحيلنا، بلا ريب، إلى أبي ذر الغفاري.

قد يعود بنا التساؤل الاستنكاري حول غياب الثورة أو احتجاج الأفراد على واقع الهيمنة والظلم والاستغلال إلى نشأة أول مجتمع: كيف ولماذا لا يحتج غالبية المُهيمن عليهم والمحرومين حقوقهم والمتعرضين للاستغلال والقمع ضد الظلم والطغيان؟ هل ثمة إيمان اليوم بأن الطبقية اصطفاء طبيعي وأن الرأسمالية قدر حتمي لا مفر منه وأن طبيعة الهيمنة لا رجعة فيها، أو هي مسألة خوف، أو وعي وخيار عقلاني براغماتي؟

في مواصلة لهذا الاستقراء الإشكالي، وإذا نزَّلناه في السياق التونسي منذ 14 كانون الثاني/يناير 2011، تُطرح الأسئلة الآتية: لماذا يرضخ الثائرون على منظومة الاستبداد فلا يحتجون ولا ينخرطون في فعل جماعي بعد ترنّح «منظومة القمع النوفمبرية» (منظومة بن علي) وبعد افتكاك حق التنظم والاحتجاج؟ لماذا لا يحتج ولا يثور ولا يناضل من هم على الهامش، المفردون تباعاً، الغالبية، المُنتِجون المعانون من الاغتراب، ومن هم في الأطراف؟

لماذا لا يحتج من هم خارج النظام (Out) على من هم داخله (IN)، ومن هم في المركز على منظومة الأقلية المتنفذة التي تُراكم الثورة، رغم توفر مجال أوسع للتنظم والانخراط في الحركات الاجتماعية والاحتجاجية والمطلبية المنظمة ويتركون الأقليات المُلتزمة سياسياً تحمل صخرة اللعنة وحيدة؟

لماذا يقبل هؤلاء بواقع متّسم بهشاشة التشغيل وبالبطالة الجماعية وبغياب العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية خاصةً بعد إسقاط بن علي وتحقيق الشعار الأول من الشعارات المركزية للحركة الاجتماعية (17 كانون الأول/ديسمبر-14 كانون الثاني/يناير)، أي الحرية؟

لمَ هذه الاستقالة الجماعية من النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟

 

حقوق لا تُفتكّ بل تُهدى!

إن اعتبارنا، منذ بداية هذه السطور، لـ«17 كانون الأول/ديسمبر - 14 كانون الثاني/يناير» عنواناً لتحقق حركة اجتماعية يكمن في كونها ترجمة للاصطلاح السوسيولوجي لماهية الحركة الاجتماعية. فالتقاء مجموعة من الفاعلين على خلق إطار محدد يؤوِّلون به واقعاً ما، وتمكنهم من استقطاب الغالبية إذ يفككون الواقع من داخل الإطار نفسه في سياق جعلهم يتّحِدون على فهم مشترك لوجود مشكلة وكيفية أشكلتها والمتسبب فيها والحلول والآليات التي ستتخذ لحله في سيرورة تنشد صيرورة ألا وهي «الثورة»، وهو على مستوى الـPraxis (الممارسة) نمذجة لمفهوم الحركة الاجتماعية. وهذا ما حدث في تونس منذ حرق البوعزيزي نفسه.

لكن هذه الحركة وصل ثوارها إلى المنتهى الفريد وتعطلت سيرورتها. فـ«شغل، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة وطنية» كانت الشعارات المركزية للحركة في سيرورتها التي تنشد الثورة. هي سيرورة أسقطت بن علي لكنها لم تسقط أقانيمه، فإذا بالصيرورة الثورية تُعلَّق فوق صليب الصراع بتواطؤ الجميع، حتى حوارييها وأنصارها وأتباعها قبل أعدائها (إذا كان بن علي هو الأب، فالاستغلال ابنه، والفساد روحه القدس).

بعدما شهدت المرحلة التي تلت فرار بن علي تحركاً للشارع يمكن اعتباره كمياً وكيفياً مجالاً لتحقق حركة اجتماعية خلقت فعلاً جماعياً اتفق في تأويله للواقع على وجود مشكلة وأشكلتها وعلى المتسبب فيها وطرق تغييرها وحلها. ورغم بروز حالة ذهنية ترى السياق مناسباً لتحقيق مطالب جماعية، فإن تضافر هذه العوامل لم ينجر عنه إلا تحقيق مطلب الحرية، وذلك بتحقيق مطالب حقوقية وسياسية (من العفو التشريعي العام إلى حل حزب التجمع، وإنشاء المجلس التأسيسي...).

في المقابل، ظلت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية جنة منشودة لكنها مفقودة. فرغم تحقق المسار الانتقالي عبر ديمقراطية تمثيلية بفعل إنشاء مجلس تأسيسي ودستور وهيئات دستورية، ومن ثم تحقق أول شعار من الشعارات المركزية للحركة الاجتماعية، أي الحرية، فإن الشغل والعدالة الاجتماعية بقيا شعارات بالمعنى الحرفي للكلمة.

 

سياسة الحلم أو الصراع

في لحظة الانهيار/الفوضى التي تلت ترنح النظام، مارس الفاعلون الحاملون شعارات «الشغل، والحرية، والعدالة الاجتماعية» سياسة الحلم كما يسمّيها المفكر الأميركي حكيم باي في حديثه عن خلق مناطق ذاتية التنظم ومستقلة في سيرورة الصراع، ولم يمارسوا سياسة الصراع، أي السياسة العملية الممنهجة المنظمة، في تأريخ وتحليل تشارلز تيلي وسدني تارو لسياسات الصراع.

كانوا وسط الحركة الاجتماعية لحظة انسحاب النظام تكتيكياً بعدما قدم قربانه للفعل الجماعي (كان القربان بن علي والحاشية). كانوا يمارسون الحلم كإطار يؤوِّلون به الواقع، فكانوا بين واقع موسوم بالإقصاء والظلم واللاعدالة، وبين حلم ينشدون فيه الحرية والعدالة والكرامة. إنه تأطير مثالي رومانسي افتقد المرور للفعل المنظم تحت سقوف سياسة صراع تتلقف سلطة كانت مرمية في الشارع وتنتظر من له القدرة على قنصها.

لم يمارسوا سياسة الصراع واكتفوا بالحلم لأن الحركة الاجتماعية كانت مفتقدة إلى تنظيم جاهز وميزان قوى في مصلحتها وسياق جيو-سياسي أيضاً. وكانت مفتقدة إلى فهرس ممارسة عملية يأخذ الصراع من جانبه الاحتجاجي المطلبي إلى ضفة التحقق عبر برنامج مهمات وإستراتيجية وتنظيم للفعل الجماعي بغاية الوصول إلى النظام بعد إسقاطه. مع العلم أن النظام لم يسقط كله بل سقط جزء منه، لأن النظام كان النظام - الدولة، والدولة لم تسقط في تونس بل كانت تواصل عملها حتى ليلة هرب بن علي، وبعدها.

وبعيداً حتى عن المقاربة الماركسية تذهب أشد المقاربات السوسيولوجية الأميركية براغماتية (المقاربة البنائية التأطيرية لدايفيد سنو) إلى أن الشروط الموضوعية (اقتصادية واجتماعية) لـ«اللاعدالة» التي توجد في وضعية ما لا تكفي لحشد الجموع من أجل فعل جماعي ضد هذه الوضعية.

فمن أجل أن يحدث المرور النوعي من وضع «قابل للتحريك» إلى «متحرك»، أو من قابل للانخراط إلى منخرط، على الأفراد المعنيين بخلق الفعل الجماعي أن يتفقوا ويجتمعوا أساساً على ثلاثة محددات جوهرية، هي أساساً: وجود مشكلة وتحديد المسؤولين عنها، وتحديد الآليات والوسائل الناجعة والضرورية للفعل ومواجهة الجهة التي تسبب/تمثل المشكلة، ثم الاعتقاد في القدرة على الفعل وضرورة الفعل، وإمكانية التغيير والانتصار.

في النتيجة، إن الوعي بكيفية اشتغال منظومة الضَيم بمختلف أشكاله، بما هو تنشئة متفردة وبوصفه نتاجاً لتجارب وجودية تنحت مواقف نقدية ومسارات تتحقق فيها ذوات مختلفة عن غالبية المجتمع الخاضع للمعايير السائدة، ليس أكثر الأشياء توزيعاً عادلاً بين الأفراد، بل أكثرها ندرة.

 

{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}

يذهب منصور أولسن إلى تفسير تجنب الانخراط في الفعل الجماعي بالنسبة إلى المعنيين به مباشرة، كالاحتجاج على واقع الهشاشة الاقتصادية للطبقات المتوسطة والفقيرة أو التمييز السلبي في التنمية ضد الجهات الداخلية، أو بطالة أصحاب الشهادات العليا، بأنهم يقومون بحساب نفعي لمدى الربح/الضرر الناجم عن المشاركة من عدمها، وكيفية ذلك.

كأن الاحتجاج «فرض كفاية»، فإذا فعله البعض، سقط وجوبه عن الآخر. فإذا كان الفرد المتضرر من البطالة متأكداً أنه إذا ما نجح الفعل الجماعي من دون مشاركته، فسيمكنه الانتفاع بثمار نضالات الأقلية المتنظمة سياسياً في صراعها مع الحكومة، وأنه سيكون في مأمن من الصراع مع الشرطة، ومتمتعاً بوقته، فإنه في الحالات جميعها سيكون مقبلاً على الربح ومنسحباً من الهزيمة. فرد «فرداني» ينتظر الآخرين لفعل جماعي ويقتسم معهم الربح ويضمن سلامته من الضرر.

الفرد المتضرر من نمط الإنتاج الاقتصادي ومنوال التنمية في تونس، وأمام الصراع الذي تخوضه أقليات تنظيمية، إنْ لم يكن حاملاً لتجربة أو لوعي سياسي يمثِّل له إطاراً تأويلياً للواقع (كما الحال للمتحزبين أو ناشطي المجتمع المدني)، فلن ينخرط في النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بسبب عملية حسابية للمجهود الذي سيبذله مقابل الربح الذي سيأتي، به أو من دونه، في حال الانتصار، ولذا سيتفادى جهداً ضائعاً أو ضرراً من الصراع مع السلطة.

 

الدولة والثورة والنفاذ: مجتمع الاستهلاك

يحدث أن تصبح سياسة الصراع من أجل تحقيق الشعارات المركزية لحركة «17 كانون الأول/ديسمبر-14 كانون الثاني/يناير» قائمة على حق النفاذ إلى مجتمع الاستهلاك لا الثورة عليه. كأن هربرت ماركوزه «مُشوّه» يفكِّر لهذه الحركة، فصار الإنسان الذي يعدُّ الاستهلاك بُعده الواحد إنساناً منشوداً يبحث الفاعلون عن تحققه.

يحدث أيضاً أن تنتحل الدولة صفة الديمقراطية والحرية والعدالة بفضل مسار انتقالي طهَّرها من وصم الاستبداد. مسار أعطى «السيستام» شرعية انتخابية تبيح حظر الثورة وغض البصر عن مطالب العدالة الاجتماعية.

ففي عهد بورقيبة وبن علي، قايض «السيستام» المجتمع على حريته مقابل الأمن ودعم الطبقة المتوسطة وكفالة الفقراء، وذلك عبر وضع أسس دولة رعاية اجتماعية. أما الآن وبما أن التغيير لا يتم إلا عبر صندوق الاقتراع، الذي لا يفوز فيه إلا من يستأثرون بالمال والإعلام، فالسلطة لن تخدم إلا مصالح من أنتجها في مأمن تام من أي تغيير ثوري صار حدوثه فرضية تتماهى مع الخيال.

*******

الخلاص الفردي؛ لستُ المَسيحَ لأموت من أجلكم
أو كما يصدح المثل التونسي الشعبي: «نَفسي نَفْسِي ولا يرحم منْ مات»

*******

منذ تعطّل سيرورة الحركة الاجتماعية التي تنشد صيرورة الثورة وتحوُّل مختلف فاعليها إلى شتات أو قطعان تنظيمية حزبية بــ«غثاء أحوى»، ظهرت مسارات فعل نضالي تعتمد تكتيكات فردانية قصد الخلاص من واقع ما أو النفاذ إلى دائرة المندمجين في «السيستام» والوصول إلى شاطئ النجاة (التحول إلى مصطافين بعدما كانوا مُصطفِّين في سيرورة حركة ثورية).

انقسمت الحركة الاجتماعية إلى مسافات متباينة، فلم يعد هناك إجماع بين مختلف فاعليها على هوية الخصم/الخصوم، وعلى ماهية المشكلة وأشكلته والإستراتيجيات المتخذة أو التي يجب اتخاذها. ينقسمون يميناً ويساراً داخل نفس الجسد اليساري التقدمي الاجتماعي الذي لا يزال يرى نفسه وارثاً سيرورة «17 كانون الأول/ديسمبر-14 كانون الثاني/يناير».

هذا مع أن الابن تحول إلى أبناء تفرقوا بين قبائل اختلفت في تبنيها المسار الانتقالي أو أن تظل يتيمة من يتامى الصيرورة الثورية المغدورة. فحجّ البعض إلى المجتمع المدني وحجّ الآخر إلى القلاع الكبرى للمجتمع السياسي، وانقسم الشتات بين قطع نرد متناثرة هنا وهناك في مربعات نضال فردانية.

 

خلاصات متعددة

حتى لو اختلفت مسارات النضال، فإنها اتحدت في أن الخلاص لم يعد متمثلاً في فعل جماعي بقدر ما هو خلاصات متعددة لأفراد يتقاطعون هنا وهناك ويتباعدون بين فينة وأخرى لضمان أسباب وجودهم داخل المنظومة الجديدة وحتى خارجها، منظومة الديمقراطية التمثيلية التي تشترط وجود إمكانية وحيدة للنضال، ألا وهي الفوز في صندوق الانتخاب.

تحول اليسار من مُراكم لرأسمال رمزي قوامه النضال الثوري من أجل افتكاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى يسار إصلاحي مراكِم لشبكة من الأفراد ووشائج رساميل ثقافية (أيديولوجية، أو خطابية، أو عملية) إما في المجتمع المدني وإما في المجتمع السياسي، وذلك لممارسة الضغط داخل مؤسسات الدولة لا خارجها باعتماد سياسات الاقتراح والضغط والتغيير اللين والمُناصرة.

أنتج تحول اليسار من عقيدة الثورة إلى الإصلاح تغيّراً جوهرياً في الممارسة النضالية. فالفرد الذي يناضل داخل جمعية حقوقية ليس الذي يناضل داخل حزب سياسي وليس نفسه الذي يناضل فردياً أحادياً، وذلك ضمن سياق تغيّر من سيرورة تنشد الثورة إلى مسار انتقالي أجهض صيرورتها.

ليست الاستقالة من النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصماً للفاعلين المنخرطين في الفعل الجماعي داخل الحركة الاجتماعية «17 كانون الأول/ديسمبر-14 كانون الثاني/يناير»، وليس النضال من أجل هذه الحقوق في ممارسته حكراً على الثوريين المثاليين وشرفاً لا يناله سواهم.

لكن كان طرحنا هذه الإشكالية منذ أول سؤال في هذه المقالة بحثاً عن فهم وتفسير أسباب تعطل سيرورة الحركة الاجتماعية في تونس وتحولها إلى شتات من الحركات الاحتجاجية والمطلبية، لا تشبيك بينها قادر على إحياء سيرورة تنشد التغيير الجذري.

هنا نتوصل إلى قاعدة؛ الغالبية هي غالبية صامتة لا تحتج ولا تنتظم ولا تنخرط في النضال من أجل حقوقها، وإنما تنحو إلى الخلاص الفردي، وهو خلاص صارت تؤمن به الأقلية أيضاً التي تمثل الاستثناء، الاستثناء الذي يثبِت القاعدة.

فالأقلية الواعية المتنظمة والمنخرطة في الفعل الجماعي/الحركة الاجتماعية، وجدت نفسها حين تعطلت سيرورة الأخيرة قد تحولت إلى شتات من فاعلين دونكيشوتيين يصارعون النظام والسياق والمجتمع في آن، كما يصارعون طواحين الهواء. فصار النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مهمة سيزيفية (نسبة إلى من أمضى حياته دافعاً إلى أعلى الجبل صخرة ما إن يصل بها إلى القمة حتى تتدحرج من جديد) لا يقوى على تحملها إلا بعض الملتزمين أفراداً وجماعات، بتفعيل سيرورة الحركة الاجتماعية نحو صيرورتها المنشودة.

في الختام، هي مهمة إما أن نفسرها بصفتها لعنةً تخشاها الغالبية وتتحملها الأقلية، وإما أن نذهب إلى ما كتبه ألبير كامو حين قال: «تخيّلوا سيزيف سعيداً»، هكذا نقارب المسألة باعتبار أن النضال وعي، وأساساً هو مسؤولية نابعة عن التزام يخيَّر فيه الأفراد ولا يسيَّرون.

سفيان جاب الله

باحث تونسي في علم الاجتماع.

×